فصل
اعلم أن القياس قياسان، قياس طرد وقياس عكس. فأما قياس الطرد: فهو إثبات حكم الأصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم. وهذا أقوى القياسين حكماً، وليس يختلف أهل القياس في القول به. وأما قياس العكس: فهو إثبات حكم نقيض حكم الأصل في الفرع باعتبار علته. وهذا قد أثبته أكثر الفقهاء قياساً وإن خالفهم أكثر المتكلمين. وقياس الطرد، لا يخلو من أربعة أشياء: من أصل، وفرع، وعلة، وحكم.
فأما الأصل فهو الذي يتعدى حكمه إلى غيره، وأما الفرع فهو الذي يتعدى إليه حكم غيره، وأما العلة فهي التي لأجلها ثبت الحكم. وقيل الصفة الحالية للحكم، وأما الحكم فهو المنقسم إلى:
الإباحة، والحظر، والوجوب، والندب، والكراهة، والاستحباب فالبر في الربا أصل، والأرز فرع، والأكل علة، والربا حكم.
ثم العلة والحكم لا بد من وجودهما في الأصل والفرع معاً غير أن العلم بوجودهما في الأصل أسبق من العلم بوجودهما في الفرع، والعلم بالحكم المعلق بالأصل أسبق من العلم بعلة الحكم في الأصل، لأن العلة تعلم بعد الاستنباط لها والحكم متقدم على الاستنباط. والعلم بالعلة في الفرع أسبق من العلم بحكم الفرع بخلاف الأصل. لأن بوجود العلة في الفرع يعلم حكم الفرع، وبوجود الحكم في الأصل يعرف علة الأصل. ثم لا يخلو حال الحكم في الأصل من أن يكون مستفاداً من ثلاثة أوجه: من نص أو إجماع أو قياس على أصل آخر. فإن كان الحكم مستفاداً من نص أو إجماع، كان المنصوص عليه أصلاً بذاته فيجب حينئذ استنباط علته وتعليق حكمه على فروعه.
وإن كان الحكم مستفاداً من قياس على أصل آخر فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يكون الحكم قد ثبت في ذلك الأصل بمثل العلة التي يثبت بها الحكم في هذا الفرع أو يكون الحكم قد ثبت فيها بعلة أخرى. فإن كان قد ثبت الحكم في الأصل بمثل العلة المستنبطة منه لم يثبت الحكم في هذا الفرع.
مثاله: أن تقيس الذرة على الأرز بعلة الأكل، والأرز قد ثبت فيه الربا فهذه العلة قياساً على البر. فإن كان هكذا لم يجز جعل هذا أصلاً وكان هذا الأصل مع ما ألحق به فرعين على الأصل الأول.
فجعل الذرة والأرز فرعين على البر المنصوص عليه لوجود علة البر فيهما على سواء، وليس جعل الأرز المقيس على البر أصلاً للذرة بأولى من جعل الذرة أصلاً للأرز لاستوائهما فرعاً للآخر. وإن كان الحكم قد ثبت في ذلك الأصل بعلة ورد الفرع إليه بعلة أخرى مستنبطة منه غير تلك العلة فقد اختلف أصحابنا في جواز ذلك.
فقالت طائفة لا يجوز ومنعوا منه، لأن الفرع إنما يرد إلى الأصل إذا شاركه في علة حكمه، وعلة هذا الأصل التي ثبت بها حكمه هي علة أخرى لا توجد في الفرع الثاني وهذا مذهب من منع من القول بالعلتين.