فالوديعة لا تحبسه عن السفر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمتنع عن الهجرة لأجل ما كان عنده من الودائع، ولأن استدامة الوديعة غير لازم، وردها على مالكها متى شاء المستودع جائز، وإذا كان ذلك فعليه إذا أراد سفراً ومالكها حاضر أن يردها عليه.
فلو قال لمالكها: لست أدفعها إليك إلا أن تشهد على نفسك بقبضها ففي وجوب الإشهاد عليه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجب، لأن قوله في الرد مقبول، فعلى هذا يكون المنع منها لأجل الإشهاد متعدياً، وهذا أصح الوجوه.
والثاني: أن إشهاد المالك على نفسه واجب، لأن يتوجه على المستودع يمين أو نوزع في الرد، فعلى هذا لا يكون بالمنع منها لأجل الإشهاد متعدياً.
والثالث: أن ينظر، فإن كان المالك قد أشهد على المستودع عند دفعها إليه لزمه الإشهاد على نفسه عند ردها عليه، وإن لم يشهد عند الدفع لم يلزمه الإشهاد على نفسه عند الرد، وإن لم يردها على مالكها مع حضوره فلا يخلو حاله فيها من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يسافر بها معه.
والثاني: أن يدفعها إلى غيره.
والثالث: أن يخلفها في حرزه.
فإن سافر بها ضمن، سواء كان سفره مأموناً أو غير مأمون.
وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه إذا كان سفره مأموناً، استدلالاً بأن الذي عليه في الوديعة حفظها، فإذا حفظها في أي مكان كان من حضر أو سفر كان مؤدياً لحق الأمانة فيها، قال: ولأنه لما جاز أن يحفظها في أي موضع شاء من البلاد إذا كان مأموناً كان له ذلك في غير البلد إذا كان مأموناً. والدليل على تعديه إذا سافر بها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المسافر وماله على قلت إلا ما وقى الله" (1) يعني على خطر، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ورقاده" (2) ولان السفر مخوف في الغالب، وأمنه نادر لا يوثق به. ولذلك يمنع السيد مكاتبه من السفر، ويمنع ولي اليتيم من السفر بماله، ولأن في السفر بالوديعة من التغرير بها إحالة بينها وبين مالكها بإبعادها عنه، وهذا عدوان، ولأن العرف في حفظ الودائع وإحرازها جاز في الأمصار دون الأسفار، فكان الخروج عن العرف فيها عدواناً، وليس بما استدل به من أن المقصود هو لحفظ الوجه، لأنه يلزمه مع الحفظ أن لا يخاطر بها ولا يغرر،