والدليل على جواز تعجيل الكفارةَ قبل الحنث ما رواه مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرةَ أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير".
وروى قتادةَ عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرةً قال؛: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر ثم ائت الذي هو خير" فجوز في هذين الحديثين تعجيل الكفارةً قبل الحنث؛ فإن قيل: فقد روى فيها وفي الخبر المتقدم تأخير الكفارةً عن الحنث فعنه جوابان:
أحدهما: أن تقديم الكفارةً أشهر من تقديم الحنث.
والثاني: أننا نستعمل الروايتين معًا، فحمل تقديم الكفارةَ على الجواز تأخيرها على الوجوب، وتستعملها على وجهٍ ثان أن يحمل تقديمها على التكفير بالمال، وتأخيرها على التكفير بالصيام. فتكون باستعمال الخيرين أسعد ممن استعمل أحدهما وأسقط الآخر.
ومن القياس ما يوافق عليه أبو حنيفة أنه لو خرج إنسانًا وعجل كفارةَ قتله بعد جرحه وقبل موته أجزأه، وكذلك لو جرح المحرم صيدًا لو قدم جزاءه بعد جرحه وقبل موته أجزأه، فجعل هذا معه أصلًا للقياس فيقول: يكفر لتعلق وجوبه سببين فجاز تقديمه بعد وجود أحدهما قياسًا على كفارةً وجزاء الصيد، ولأنه يكفر بمال بعد عقد اليمين فوجب أن يجزئه قياسًا على ما بعد الحنث.
ولأنه حق مال يجب سببين يختصان به فجاز تقديمه على أحدهما قياسًا على تعجيل الزكاةَ، فإن منعوا من وجوبها سببين دللنا على وجوبها بالحنث واليمين لقول الله تعالى: {وَلاكِن يُؤاخِذُكُم بِما عَقَّدتُمُ الأَيمانَ} المائدة: (89) وبقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} المائدة: (89) فجعلها تكفيرًا لليمين فلم يجز أن يخرج من شرط الوجوب ولأن الكفارةَ حكم متعلق بالحنث فوجب أن يتعلق باليمين كما لو قال: إن دخلت الدار فعبدي حرّ كان عتقه متعلقًا بيمينه بدخول الدار، وإن منع أصحاب أبي حنيفةَ من تعليق عتقه بيمينه وبدخول الدار، وارتكبوا أن عتقه مختص بدخول الدار وحده منعوا من ارتكاب هذه الدعوى بما لا يدفعونه من أصل أبي حنيفةَ في هذا العبد إذا ادعى الحق باليمين والحنث، فأنكره السيد فأقام العبد عليه شاهدين باليمين وشاهدين بالحنث وحكم الحاكم بعتقه، ثم رجع شاهد اليمين وشاهد الحنث، قال أبو حنيفة: تجب قيمته على شاهدي اليمين خاصةً نصفين وعندنا تجب على شاهدي اليمين وشاهدي الحث أرباعًا، فقد جعل عتقه باليمين أخص من الحنث، فكانت الأيمان بالله أولى.
وأما الجواب عن الخبر فقد مضى.
وأما الجواب عن القياس على تعجيل الصيام فهو أن الصيام من حقوق الأبدان فلم