ألا تراه لو حلف لأصعدن السماء، وهو مستحيل لم يحمل على صعود السقف، وقد يسمى سماء، لأنه غير مستحيل، ووجب حمل يمينه في صعود السماء على الحقيقة دون المجاز كذلك في شرب ماء النهر فأما إذا قال: لا شربت الماء، والألف واللام لفظ تعريف وضع لاستيعاب الجنس تارة وللمعهود أخرى وهو حقيقة فيهما، فإذا استحال استيعاب الجنس حمل على المعهود، وكان حقيقة فيه، وفارق ماء النهر لأن الاسم حقيقة في جميعه ومجاز في بعضه، وتأول قول الشافعي: "ولا سبيل إلى شرب ماء النهر كله" بسقوط حنثه.
ثم يتفرع على هذين الوجهين في النفي أن يعقد يمينه على الإثبات فيقول: والله لأشربن ماء هذا النهر، فعلى مقتضى قول أبي العباس: متى شرب بعض مائه بر، لأنه لما حنث بشرب بعضه في النفي وجب أن يبر بشرب بعضه في الإثبات، وعلى مقتضى قول المروزي لا يبر في الإثبات بشرب بعضه كما لا يحنث في النفس بشرب بعضه، وإذا لم يبر صار محكومًا بحنثه، لأنه لا سبيل إلى بره، فصار كقوله: والله لأصعدن السماء، يكون حانثًا، لأنه لا سبيل له إلى البر وفي زمان حنثه وجهان:
أحدهما: عقيب يمينه، لأن استحالة البر يمنع من تأخير الحنث.
والثاني: يحنث من آخر حياته، لأنه عقد يمينه على التراخي، فكان تحقيق الحنث على التراخي.
فصل:
وإذا حلف لأشرب من ماء دجلة، فشرب من ماء الفرات، أو لأشرب من ماء الفرات فشرب من ماء دجلة، لم يحنث لأن التعيين يخص اليمين، ولو قال: والله لأشرب ماء فراتًا حنث بشربه من دجلة ومن الفرات، لأن الماء الفرات هو العذب، فحنث بشرب كل ماء عذب.
قال الله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} المرسلات: 27 أي: عذبًا، ولا فرق إذا حلف لأشرب من ماء دجلة بين أن يشربه من إناء اغترف به وبين أن يشربه كرعًا بفيه كالبهيمة.
فأما إذا حلف، لا شربت من دجلة، فإن شرب منها كرعًا بفمه حنث بإجماع، وإن اغترف منها بإناء وشرب من الإناء حنث عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يحنث حتى يكرع منها بفمه، ولا يبر إن اغترف بيده احتجاجًا بأمرين:
أحدهما: أنه لو حلف: لأشرب من هذا الإناء، فاغترف من مائه، وشربه لم يحنث كذلك إذا حلف لا شربت من دجلة، فاغترف ما شربه من ماء لم يحنث بوقوع اليمين على مستقر الماء في الموضعين.
والثاني: أن الشرب منها حقيقة، ومن مائها مجاز، وحمل الأيمان على الحقيقة