فأما تحمل العقل بالحلف فالذي عليه الشافعي رضي الله عنه وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء أن الحلفاء يتعاقلون إلا أن يكونوا متناسبين فيتعاقلون بالنسب دون الحلف.
وحكي عن مالك بن أنس ومحمد بن الحسن أن الحلفاء يتعاقلون بالحلف وإن لم يتناسبوا استدلالًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله. وإنما قال ذلك لأن خزاعة وبني كعب كانوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفاء بني هاشم فتحمل العقل عنهم بالحلف مع التباعد في النسب.
والدليل عليهم قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الأنفال:75 فكان على عمومه في اختصاصهم بأحكام النسب.
وروي أن علي بين أبي طالب عليه السلام أراد أن يحالف رجلًا فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: "لا حلف في الإسلام" أي لا حكم له، لأن الحلف إن كان على معصية كان باطلًا، وإن كان على طاعة فدين الإسلام يوجبها فلم يكن للحلف تأثير ولأن عقود المناكح أوكد من الحلف، ثم لا توجب تحمل العقل، فكان الحلف أولى أن لا يوجبه، وأما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقل خزاعة فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه تحمل عقلهم تفضلًا لا وجوبًا.
والثاني: يجوز أن يكون تحمله عنهم حين كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالحلف.
والثالث: أن معنى قوله: وأنا والله عاقلة أي أحكم بعقله.
وأما العديد: فهو أن القبيلة القليلة العدد تعد نفسها عند ضعفها عن المحاماة في جملة قبيلة كثيرة العدد قوية الشوكة ليكونوا منهم في التناصر والتظافر ولا يتميزون عنهم في سلم ولا حرب، أو ينافر الرجل الواحد قومه فيخرج نفسه منهم وينضم إلى غيرهم ويعد نفسه منهم فهذا أضعف الحلف، لأن في الحلف إيمانًا ملتزمة وعقودًا محكمة وهذا استجارة وغوث فلم يتوارث به المسلمون مع توارثهم بالحلف فكان أولى أن لا يوجب تحمل العقل ولا أعرف قائلًا بوجوب عقله.
وأما الموالاة، فهو أن يتعاقد الرجلان لا يعرف نسبهما على أن يمتزجا في النسب والنصرة ليعقل كل واحد منهما عن صاحبه ويرثه، فهذا عقد فاسد على مذهب الشافعي، وأكثر الفقهاء لا يوجب توارثًا، ولا عقلًا، وأجازه أبو حنيفة وقال: لا يرث واحد منهما صاحبه إلا أن يعقل عنه، فإذا عقل عنه توارثًا، والكلام فيه مذكور في التوارث بالولاء وبالله التوفيق.