اليوم يوم يذل الله قريشًا
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزله عن الراية وسلمها إلى ابنه قيس بن سعد وقال:
اليوم يوم المرحمه
... اليوم تستر فيه الحرمه
اليوم يعز الله قريشًا
فجعله يوم مرحمة، وأنكر أن يكون يوم ملحمة، فدل على الصلح دون العنوة، ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أمامه الزبير بن العوام، ومعه رايته وأمره أن يدخل مكة من كداء العليا، وهي أعلى مكة، وفيها دار أبي سفيان وأنفذ خالد بن الوليد، ليدخل من الليط، وهي أسفل مكة، وفيها دار حكيم بن خرام، ووصاهما أن لا يقاتلا إلا من قاتلهما على ما قرره من الشرط مع أبي سفيان، فأما الزبير فلم يقاتله أحد، ودخل حتى غرس الراية بالحجون، وأما خالد بن الوليد فإنه لقيه جمع من قريش وحلفائهم بني بكر، فيهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وقاتلوه فقاتلهم حتى قتل من قريش أربعة وعشرين رجلًا، ومن هذيل أربعة رجال، ولو منهزمين، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم البارقة على رؤؤس الجبال، قال: "ما هذا، وقد نهيت خالداً عن القتال" فقيل له: إن خالدًا قوتل فقاتل، فقال: "قضى الله خيرًا" وأنفذ إليه أن يرفع السيف، وهذا من دلائل الصلح دون العنوة؛ لأنه لو كان عنوة لم يذكر القتال، ولم ينه عنه، ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح حين سار لدخول مكة كان يسير أبي بكر وأسيد بن حصير على ناقته القصوى، وعليه عمامة سوداء، ولو دخلها محارباً لركب فرساً ثم قص على أبي بكر أنه رأى في المنام أن كلبة أقبلت من مكة، فاستقلت على ظهرها، وانفتح فرجها، ودر لبنها، فقال له أبو بكر: ذهب كلبهم، وأقبل خيرهم وسيتضرعون إليك بالرحم، ثم خرج نساء مكة فلطخن وجوه الخيل بالخلوق، وفيهم قتيلة بنت النضير بن الحارث، فاستوقفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف لها، وكان قتل أباها النضر بن الحارث صبرًا، فأنشدته:
يا راكبًا إن الأثيل مظنة عن صبح خامسة وأنت موفق
بلغ به ميتًا فأن تحية ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليه وغيره مسفوحا جادت لما نحها وأخرى تخنق
أمحمد ها أنت صنو نجيبة من قومها والفحل فحل معرق
فالنصر أقرب من قتلت قرابة
... وأحقهم إن كان عتقًا يعتق
ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المخنق
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت سمعت شعرها ما قتلته" ولما رأى الخلوق على