والثاني: أن العنوة الخضوع، كما قال الله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} أي: خضعت، وهم قد خضعوا حين استسلموا لأمانه.
وأما الجواب عن حديث أبي هريرة " احصدوهم حصدًا حتى تلقوني على الصفا" فمن وجهين:
أحدهما: أنه قال قبل نزوله بمر الظهران وعقد الأمان مع أبي سفيان، لأن أبا بكر ابن المنذر روى أنه قال: " احصدوهم غدًا حصدًاً حتى تلقوني على الصفا" ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الأموال" عن حماد عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة.
والثاني: أنه أشار بذلك إلى من قاتل خالد بن الوليد أسفل مكة من قريش وبني نفاثة.
وأما الجواب عن قولهم: لو كان صلحا لأمن جميع الناس ولم يخصه بمن ألقى سلاحه وأغلق بابه فهو أنه جعل عقد الأمان معلقًا بهذا الشرط، فصار خاصاً في اللفظ عاماً في الحكم، وأما الجواب عن قوله، لقريش:" أنتم الطلقاء" فهو لأنه أمنهم بعد الخوف، وأحسن إليهم بعد إساءتهم، وصفح عنهم مع قدرته عليهم، فصاروا بترك المؤاخذة طلقاء وبالإحسان عتقاء، وأما الجواب عن قوله: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" فهو أن الرجلين لم يظهر منهما شرط الأمان، لأنهما كانا شاكين في سلاحهما، وقد علق شرط الأمان بإلقاء السلاح وغلق الأبواب فبقيا على حكم الأصل، فلذلك استجاز علي بن أبي طالب عليه السلام أن يقتلهما حتى استجارا بأم هانئ، فأمنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها:" كل البلاد فتحت بالسيف إلا المدينة" فهو أن معناه أن كل البلاد فتحت بالخوف من السيف إلا المدينة ولم ترد به العنوة والصلح، لأنه قد فتح بعض البلاد صلحًا.
وأما الجواب عن قوله:" إن الله حبس الفيل عن مكة وسلط عليها رسوله" فهو محمول على أن الفيل لم يظفر بها، ولا دخلها، وأظفر الله رسوله بها حتى دخلها.
وأما الجواب عن حديث حماس بن قيس، وما أنشده من شعره: فهو أنه كان حليف بني بكر الذين قاتلوا خالدًا، ولم يكن من قريش القابلين لأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قد آمن من ألقى سلاحه وأغلق بابه، فلئن دل أول أمره على العنوة، فلقد دل آخره على الصلح، وابتدأ بالقتال بجهله بعقد الأمان، ثم رجع إلى شرط الأمان حين علم به.
وأما الجواب عن استدلالهم بأن عقد الصلح ما ترددت فيه الرسل وكتب فيه الصحف كالحديبية، فهو أن ذلك صلح على الموادعة والكف، فاحتاج إلى الرسل وكتب الصحف وهذا أمان استسلام وتمكين علق بشرط، فاستغنى فيه عن تردد الرسل وكتب الصحف واقتصر فيه على أخبار أبي سفيان وحكيم بن حزام بحاله، وذكره لقريش ما تعلق بشرطه، واقتصر من قبولهم على العمل به دون الرضا والاختبار.