فصل:
فإذا ثبت حكم الهجرة فيمن أسلم من أهل الحرب، فصورة هذه المسألة في المسلم إذا أسره أهل الحرب، فالأسير مستضعف تكون الهجرة عليه إذا قدر عليها فرضًا، ويجوز له أن يغتالهم في نفوسهم وأموالهم، ويقاتلهم إن أدركوه هاربًا، فإن أطلقوه وأحلفوه أن يقيم بينهم، ولا يخرج عنهم وجب عليه الخروج عنهم مهاجرًا، ولم تمنعه اليمين من الخروج المفروض، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه".
فأما حنثه في يمينه إذا خرج يمين الأسير، فمعتبر بحال إحلافه، وله فيها ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يبدءوا به، فيحلفوه في حبسه قبل إطلاقه أنهم إذا أطلقوه لم يخرج عنهم، فهذه يمين مكره لا يلزمه الحنث فيها.
والثانية: أن يطلقوه على غير يمين، فيحلف لهم بعد إطلاقه أنه لا يخرج عنهم فهذه يمين مختار يحنث فيها إذا خرج، وكان التزامه للحنث مستحقًا.
والثالثة: أن يبتدئ قبل إطلاقه، فيتبرع باليمين، أنهم إن أطلقوه لم يخرج عنهم. ففي يمينه وجهان:
أحدهما: أنها يمين إكراه لا يحنث فيها لأنه لم يقدر على الخروج من الحبس إلا بها كما لو أحلفوه محبوسًا.
مسألة:
قال الشافعي: "وليس له أن يغتالهم في أموالهم وأنفسهم لأنهم إذا أمنوه فهم في أمان منه ولو حلف وهو مطلق كفر".
قال في الحاوي: اعلم أن للأسير إذا أطلق في دار الحرب أربعة أحوال:
أحدها: أن يؤمنوه ويستأمنوه، فيحرم عليه بعد استئمانهم له أن يغتالهم في أنفسهم وأموالهم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المائدة: 1. إلا أن ينقضوا أمانهم له، فينتقض به أمانه لهم، لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الأنفال: 58. ولو استرقوه بعد أمانهم كان الاسترقاق نقضًا لأمانهم واستئمانهم.
والثانية: أن لا يؤمنوه ولا يستأمنوه، فلا يكون الإطلاق استئمانًا كما لم يكن أمانًا، ويجوز أن يغتالهم في أنفسهم وأموالهم، ولو أطلقوه بعد أن استرقوه لم يكن الاسترقاق أمانا فيهم ولا أمانا لهم.
الثالثة: أن يستأمنوه، ولا يؤمنوه، فينظر، فإن كان لا يخافهم إما لقدرته على الخروج، وإما لثقته بكفهم عنه، فهم على أمانهم منه لا يجوز أن يغتالهم في نفس ولا