مسألة: قال: ولا ينهرهما ولا يتعنت الشاهد.
اعلم أنه لا يجوز للقاضي أن يزجر الخصوم ويصيح عليهم إلا أن يفعلوا ما استحقوا ذلك 12/ 49 أ وهذا لأنه إذا فعل خلط عقولهم ولا يتمكنون من إيراد الحجة, ولا يجوز له أن يتعنت الشهود إن كان لهم عقول وافرة وحسن سمت في الظاهر لا يفرقهم ولا يسألهم عن الشهادة متفرقين لأنه يكون تعنتاً وإنما يفعل ذلك إذا استراب بهم على ما ذكرنا أولاً, ولا يقول للشهود: لم تشهدون, وكيف تشهدون ونحو ذلك لأنه تعنت وتشوش للأمر عليهم فلا يتمكنون من إقامة الشهادة ويكون ذلك ميل إلى المشهود له.
وقال في " الحاوي:": اعلم أن القضاة زعماء العدل والإنصاف فدنوا ليناصف بينهم الناس فكان أولى أن يكونوا أنصف الناس, قال الله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وقال تعالى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}.
واعلم أن للقضاة آداباً تزيد بها هيبتهم وتقوى بها رهبتهم والهيبة والرهبة في القضاة من القواعد نظرهم ليقود الخصم إلى التناصف ويكفهم عن التجاحد. ثم آدابهم تشتمل على ثلاثة أقسام: أحدهما: في أنفسهم وهو يعتبر بحال القاضي فإن كان مرموقاً بالزهد فالتواضع والخشوع أبلغ في هيبته وأيد في رهبته, وإن كان ممازحاً لأبناء الدنيا تميز عنهم بما يزيد في هيبته من لباس لا يشاركهم فيه ومجلس لا يساويه فيه غيره وسمت يزيد فيه على غيره 12/ 49 ب فأما اللباس فينبغي أن يختص بألطفها ملبساً ويخص يوم نظره بأفخر لباسه جنساً يستكمل ما جرت به العادة بلبسه من العمامة والطيلسان ويتميز بما جرت عادة القضاة من القلانس والعمائم السود والطيالسة السود, فقد اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخول مكة عام الفتح بعمامة سوداء تميز بها من غيره ويكون نظيف الجسد بأخذ شعره وتقليم ظفره, وإزالة الرائحة المكروهة ويستعمل من الطيب ما يخفي لونه وتظهر رائحته إلا أن يكون في يوم ينظر فيه بين النساء فلا يستعمل الطيب.
وأما مجلسه في الحكم فينبغي أن يكون فسيحاً لا يضيق بالخصوم ولا يسرع فيه الملل ويفترش بساطاً لا يزري ولا يطغى ويختص فيه بمقعد ووسادة ولا يشاركه غيره فيها وليكن مجلسه في صدر مجلسه ليعرفه الداخل عليه ببديهة النظر, ولو كان فيه مستقبلاً للقبلة كان أفضل ويفتح مجلسه بركعتين يدعو بينهما بالتوفيق والتسديد على ما ذكرنا ثم يطمئن في جلوسه متربعاً مستنداً وغير مستند. وأما سمته فينبغي أن يكون في مجلس الحكم غاض الطرف كثير الصمت قليل الكلام يقتصر في كلامه على سؤال وجواب, ولا يرفع بكلامه صوتاً إلا لزجر وتأديب وليقلل الحركة والإشارة وليقف من أعوانه بين يديه من يستدعي الخصوم إليه ويرتب مقاعد الناس في مجلسه ويكون مهيباً 12/ 50 أ مأموناً ليصان به مجلسه وتكمل به هيبته. ويجعل يوما جلوسه للحكم العام