وكل موضع قلنا: يجوز سماع الدعوى على الغائب.. فإن الحاكم إذا سمع الدعوى عليه، وشهدت البينة عنده بالحق وعرف عدالتهما، وسأله المدعي أن يحكم له بذلك.. فلا يجوز له أن يحكم له بذلك حتى يحلف المدعي: أن هذا الحق -ويسميه - ثابت له إلى الآن، ما اقتضاه بنفسه ولا بغيره ولا شيئا منه، ولا أبرأه منه بنفسه ولا بغيره ولا شيئا منه، ولا أحال به بنفسه ولا بغيره ولا بشيء منه.
هذا مذهبنا في القضاء على الغائب، وبه قال مالك، والليث، والأوزاعي، وابن سيرين، وأحمد، إلا أن أحمد قال: (لا تجب اليمين) .
دليلنا عليه: أن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الغائب، ومن الاحتياط أن يحلف له المدعي، كما لو كان حاضرا فادعى ذلك.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز القضاء على الغائب) .
دليلنا: ما روى أبو موسى الأشعري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا حضرا الخصمان وتواعدا موعدا، فوفى أحدهما ولم يوف الآخر.. قضى للذي وفى على الذي لم يوف» . ومعلوم أنه لم يرد أنه يقضي له بدعواه، وإنما يقضي له بالبينة، فدل على أن القضاء على الغائب جائز.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، ولم يفرق بين أن يكون المدعى عليه حاضرا أو غائبا. ولأنه لو لم يجز القضاء على الغائب.. لجعلت الغيبة والاستنظار طريقا إلى إبطال الحقوق.
إذا ثبت هذا: فقدم الغائب.. نظرت: فإن قدم بعد سماع البينة وقبل الحكم عليه.. فإن الحاكم يستدعيه ويخبره: بأن فلانا قد ادعى عليك بكذا، وقد شهد عليك بذلك فلان وفلان، وقد ثبتت عدالتهما عندي، فإن كانت لك بينة بالجرح أو بالإبراء أو بالقضاء.. فأحضرها. فإن استمهل ثلاثة أيام.. أمهل، فإن لم يأت بالبينة.. حكم عليه.