والثاني: أن لا يدخلها لِقِتَالٍ ولا خائفاً، فإن دخلها لقتالِ بَاغٍ، أو قاطع طريقٍ، أو غيرهما، أو خائفاً منه، أو خائفاً مِنْ ظَالمٍ، أو غريمٍ يحبسه وهو مُعْسِرٌ لا يمكنه أن يطهر لأداء النسك لم يلزمه الإحْرَام بحال: "دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ غَيْرَ مُحْرِم (1)، لأنَّهُ كَانَ مُتَرَصِّداً لِلْقِتَالِ، خَائِفاً غَدْر الْكُفَّارِ".
والثالث: أن يكون حُرّاً، أما العبيد فلا إحرامُ عليهم بِحَالٍ؛ لأن منافعهم مستحقة للسَّادة، ولا فرق بين أن يأذنوا بالدخول أو لا يأذنوا؛ لأن الإذن في الدخول لا يتضمن الإذن في الإحْرَام، رواه الإمام عن اتفاق الأصْحَابِ، ومن يلزم الإحرام بالدّخول لا يبعد منه المنازعة في هذا التوجيه. وإن أذن السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ في الدخول محرماً فهل يكون حينئذٍ كالأحرار؟ فيه وجهان:
أقيسهما: لا؛ لأنه ليس من أهْلِ فَرْضِ النُّسُكِ، فصار كلما لو أذن لَهُ في حُضُورِ الجُمُعَةِ. وإذا اجتمعت شرائط الوجوب ودخلها غير محرم فهل عليه القضاء؟ قال الإمام: فيه قولان، وقال غيرهما: وجهان:
أحدهما: نعم، تداركاً لِلْوَاجِبِ، وسبيله على هذا أن يخرج ويعود محرماً، ولا نقول إن عوده يقتضي إحراماً آخر، كما لو دخلها على قصد النُّسُك يكفيه إحرامهُ بِذَلِكَ النُّسُك، ولا يلزمه بالدُّخُولِ إِحْرَام آخر، وكان الغرض أن لا يعرى دخوله عن الإحْرَامِ لِحُرْمَةِ البُقْعَةِ.
وأصحهما: وهو الذي أورده الأكثرون: أنه لا يجب وله علتان.
إحداهما: أنه لا يمكن القَضَاء؛ لأن دخوله الثَّاني يقتضى إحراماً آخر، وإذا لم يمكن القضاء لم كُمَنْ نذر صَوْمَ الدَّهْرِ وأفطر.
وفرع صاحب "التلخيص" على هذه العلة فقال: "لو لم يكن ممن يتكرر دخوله كالحطابين ثم صار منهم قضى بحصول الإمكان" وربما نقل عنه أنه يجب عليه أن يجعل نفسه منهم.
وأصحهما: وبه قال العِرَاقيونَ والقَفَّال: أنه تَحِية البقعة، فلا يقضي كتحية المَسْجدِ، وزَيَّفُوا العِلَّة الأولى بمَا سَبَقَ في تَوْجِيهِ القَوْلِ الأوَّلِ. وذكر القَاضِي ابْنُ كِجٍّ تفريعاً على القول بالوجوب: أنَّه إذا انتهى إلى الميقات عَلَى قَصْدِ دخولِ مكة يلزمه أن يُحْرِمَ مِنَ المِيقَاتِ، ولو أحْرَمَ بعد مجاوزته فعليه دَمٌ، بخلاف ما إذا ترك الإحرامُ أصلاً ورأساً؛ لأن نفس العِبَادَةِ لا تجبر بالدَّمِ.