وعن مالك: إن علم البائع قدر كَيلها لم يصح البيع حتى يبينه، وحكى إمام الحرمين عنه أنه لا بد من معرفة المقدار، فلا يصح بيع الصبرة جزافاً ولا بالدراهم جزافاً، ولو كانت الصبرة على موضع من الأرض فيه ارتفاع وانخفاض، أو باع السَّمْن ونحوه في طرف مختلف الأجزاء دقة وغلظاً، فقد حكى المصنف في "الوسيط" ثلاث طرق، وقضية إيراد الإمام الاقتصار على الأول والثالث.
أظهرهما: وبه قال الشيخ أبو محمد: أن في صحة البيع قولي بيع الغائب؛ لأن انخفاض الأرض وارتفاعها وغلظ الطّرف ودقته يمنع تَخْمين القدر، وإذا لم يفد العِبَيان إِحَاطة كان كعدم العِيَان في احتمال الغَرَر.
والثاني: القطع بالبطلان؛ لأنا إذا صححنا بيع الغَائِب أثبتنا فيه الخِيَار عند الرّؤية، والرؤية حاصلة هاهنا فيبعد إثبات الخيار معها، ولا سبيل إلى نفيه لمكان الجَهَالة، وهذان الطريقان هما المذكوران في الكتاب، والطريقة الثانية ضعيفة، وإن نسبت إلى المحققين؛ لأن الصِّفَة والمقدار مجهولان في بَيْع الغائب، ومع ذلك خرجناه على قولين، فكيف نقطع بالبطلان هاهنا مع معرفة بعض الصِّفَات بالرّؤية؟ فإن قلنا بالصحة فوقت إثبات الخيار هاهنا معرفة مقدار الصُّبْرَة أو التَّمكن من تَخْمِينه برؤية ما تحتها.
والطَّريق الثالث: نقله الإمام عن رواية الشيخ أبي علي في "مهذبه الكبير": القطع بالصحة، ذهاباً إلى أن جهالة المقدار غير جائزة بعد المُشَاهدة، فإن فرعنا على البطلان فلو باع الصُّبْرَة والمشتري يظن أنها على اسْتِوَاء الأرض ثم بَانَ تَحْتَها دكة، هل يَتَبَيْن بطلان العقد؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم وبه قال الشَّيخ أبو محمد لأنا تبيَّنا بالآخرة أن العِيَان لم يفد علماً.
وأظهرهما: لا، ولكن للمشتري الخيار تنزيلاً لما ظهر منزلة الغيب والتَّدْليس، -هذا ما أورده صاحب "الشَّامل" وغيره- ولو قال: بعتك هذه الصُّبْرَة إلاَّ صاعاً، فإن كانت معلومة الصِّيْعَان صح، وإِلاَّ فلا وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: يصح، وإن كانت مجهولة الصِّيْعَان، واحتجوا للمذهب بما روي "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَن الثّنيا في الْبَيْعِ" (1).
ثم اختلفوا في وجه الاحتجاج، فذكر المَاوْردي في "الحاوي": أن المراد من الخبر: الصورة التي نحن فيها.