وثانيها: كون الالتماس من الغرماء، وفيه مسألتان:
إحداهما: لو التمس بعضهم دون بَعْضٍ، نظر إن كان دين الملتمس قدراً يجوز الحَجْرُ عليه لذلك القدر أُجِيبُوا، ثم لا يختص الحجر بهم، بل يعم أثره الكُلّ (1)، وإن لم يَكُنْ فوجهان:
الأظهر: المنع؛ وعن الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: أنه يحجر، ولا يضيع حَقّه بتكاسل غيره.
الثانية: لو لم يلتمس أحد منهم والتمسه المفلس فوجهان:
أحدهما: لا يجاب إليه؛ لأن الحُرِيَّة والرشد ينافيان الحَجْر، وإنما يصار إليه إذا حقت طلبة الغُرَمَاءِ.
وأظهرهما: الإجابة؛ لأنَّ له غرضاً فيه ظاهراً، وقد روى أن الحِجْرَ على معاذ -رضي الله عنه- كان بالتماس منه دون طَلَبِ الغُرَماء (2).
وثالثها: كون الدُّيُون حَالَّه، فَإنْ كانت مؤجلةً فلا حَجْرَ بِهَا، سواء كان له ما يَفِي بها أو لم يكن؛ لأنه لا مطالبة في اَلحَالِ، وربما يجد الوفاء عند توجه المُطَالَبَةِ، وإن كان البعض حالاًّ والبعض مؤجلاً، نظر إن كان الحال قدراً يجوز الحجر به حُجِر، وإلا فَلاَ، وإذا حُجِرَ عليه، فهل يحل ما عليه من الدُّيونِ المُؤَجَّلة؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم، وبه قال مَالِك؛ لأن الحجر يُوجِبُ تعلق الدَّيْنِ بالمَالِ، فيسقط الأجل كالموت.
وأصحهما: لا؛ لأن المقصود من التأجيل التخفيف ليكتسب في مُدَّةِ الأجل ما يقضي به الدَّيْن، وهذا المقصود غَيْرُ ثَابِتٍ، بخلاف صُوَرةِ المَوْتِ، فإن توقع الاكتساب قَدْ يبطل، وهذا ما اختاره المزني ونقله عن "الإملاء" وعن الشيخ أبي مُحَمَّدٍ: ترتيب هذين القولين على القولين في أن مَنْ عليه الدَّيْنُ المؤجل لو جُنَّ هل يَحِل عليه الأَجَل؟ وأن الحلول في صورة الجُنُونِ أولى؛ لأن المجنونَ لا استقلال له كالميت، وقيمه ينوب عنه كما ينوب الوَارِث عن الميت، ورأى الإمام الترتيب بالعكس أولى؛ لأن قَيِّمَ المجنون له أن يبتاع له بثمن مُؤَجَّلِ عند ظهور المَصْلَحَةِ، فإذا لم يمنع الجُنُونُ التأجيل ابتداء فلان لا يقطع الأجلَ دواماً كان أولى.