قال الرافعي: لما كان أصل الماء الطهارة ونجاسته عارضة، تطرأ بملاقاة شيء نجس، حسن القول في أن النجس ماذا أولاً، فعقد الفصل الأول في النجاسات، وأداها في تقسيم اقتدى في معظمه بِإمَامِ الحَرَمَيْنِ -رحمه الله- وهو أن الأعيان تنقسم إلى جَمَادٍ، وَحَيَوانٍ، والأصل في الجميع الطَّهَارَةُ؛ لأنها مخلوقة لمنافع العباد، وإنما يحصل الانتفاع أو يكمل بالطهارة، ولا يستثنى عن هذا الأصل من الجمادات إلا الخمر، وما يسكر من الأنبذة، أما الخمر فلوجهين:
أحدهما: أنها مُحَرَّمَةُ التَّنَاوَلِ، لا لاحترام وضرر ظاهر، والناس مَشْغُوفُونَ بِهَا، فينبغي أن يكون محكوماً بنجاستها تأكيداً للزجر، ألا ترى أن الشرع حكم بنجاسة الكِلاَبِ، لما نهى عن مخالطتها مبالغة في المنع.
الثاني: أن الله -تعالى- سماها رِجْساً وَالرِّجْسُ وَالنَّجَسُ عبارتان عن معنى واحد، وأما الأَنِبذَةُ المُسْكِرَةُ فلأنها ملحقة بها في التحريم، فكذلك في النجاسة، وينبغي أن يكون النبيذ مُعْلَمًا بعلامة أبي حنيفة -رحمة الله عليه- فإنه يقول بالطهارة، حيث يقول بِالحِلِّ:
وبالواو أيضاً، لأن يحيى اليمني (1) حكى في البيان وجهاً ضعيفاً: أن النَّبِيذَ طاهر لاختلاف الناس فيه بخلاف الخمر؛ بل ينبغي أن يكون لفظ الخمر معلماً بالواو أيضاً، لأمور ثلاثة:
أحدهما: أن الشيخ أبا علي حكى خلافاً في نَجَاسَةِ المُثَلَّثِ المُسْكِرِ الذي يبيحه أبو حنيفة مع الحكم بالتَّحرِيمِ قَطْعاً.
والثاني: أنه حكى وجهاً في طهارة الخمر المحترمة.
والثالث: أنهم ذكروا وجهاً في أن يواطن حَبّضاتِ العُنْقُودِ مع استحالتها خمرًا لا يحكم بنجاستها، تشبيهًا بما في باطن الحيوان، وكل ذلك ينافي إطلاق القول بالنجاسة.
واعلم أنه لا يريد بالجماد في هذا التقسيم مطلق ما لا حياة فيه؛ بل وما لم يكن حيواناً من قبل، ولا جزءًا من الحيوان، ولا خارجًا منه، وإلا لدخل في الجَمَادَاتِ