وإِذا تأمَّلْتَ حكم هذه الأَضْرُب عَرَفتَ أنَّ الانْتِقَال من دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى دِينٍ بَاطِلٍ، يُبْطِلُ الفضيلة التي كانت في الأول ولا يفيد فضيلة لم تكن في الأول ولكن تبقى الفضيلة الَّتي يشرّك فيها الدينان على قوْلنا بالتقرير، وعرفت أن كلامَهُم المطْلَقَ في الفصل الذي تقدَّم أنَّ مَنْ دَخَلَ في التهوُّد والتنصُّر بعد النَّسْخ والتَّبْدِيل لا يناكح، ولا يُقَرُّ بالجزية، غَيْرُ مستمِرٍّ على إطلاقه؛ لأن من تهوَّد أو تنصَّر اليوم، فَقَدْ دَخَلَ في ذلك الدِّينِ بعْد الفسخ والتبديل، فقد بَانَ الْخِلاَفُ في أنَّه هل يناكح؟ وهل يُقَرُّ بالجزية مهْما كان الُدُّخُول في دِينِ يُقَرُّ أهلُه عليه؟ فإذن إطلاقهم هناك وجزمهم بالمنع محمولٌ على ما إذا كان الدُّخُولُ منه في دِينٍ لا يُقَرُّ عليه، كالتَّوَثُّنِ، وهذا هو البيانُ الذي سبق الوَعْدُ به.
وقوله: في الكتاب "ولا يرضى منه إلا بالسيف أو الإِسلام"، مُعْلَم بالحاء، لما مَرَّ أَنَّ أبَا حَنِيْفَةَ يقول بالقول الأوَّل.
وقوله: "ونرضى بالإِسلامِ أَو بالعَوْد إلى التهوُّد" معناه أنا نقْنَع، ونكفُّ عنه بالعود إلى التَّهوُّدِ، وإلا، فكيفَ نرضى بالكفر، ولا نقول في شيء من هذه الصور: أسْلَمْ أو عُدْ إلَى ما كنت عليه، بل لا نأمُرُهُ إلاَّ بالإِسلام، لكن نتركه لو عاد إلى غيره.
القسم الثاني: الانتقالُ من الدين الْحَقَّ إلى دين باطل بأَن يرتدُّ المسلم، والعياذ بالله عَزَّ وَجَلَّ، فلا يُقْبَلُ منه إِلاَّ الإِسلامُ، فإن أبَي، قُتِلَ علَى ما سيأْتي في الجنايات، إن قَدَّرَ اللهُ عزّ وجلّ، ولا يحلُّ نكَاج المرتدة لا لِلْمُسْلمين ولا للكفار، أمَّا للمسلمين؛ فلأنها كافرةٌ لا تُقَرُّ، وأَمَّا للكفار؛ فلبقاء عُلْقَة الإِسلام فيها، وإذا ارتَدَّ في دوام النكاح أَحدَّ الزوجَيْنِ نُظِرَ إنْ كان قبل المَسِيسِ تنجَّزت الفُرْقة، وإِن كان بعده يُوقَف النِّكَاح على انقضاء العدة، فإِن جمعهما الإِسلام قبل انقضائها، استمر النِّكاحُ، وإلاَّ، تبين الفرقة من وقت الردة، وبهذا قَالَ أَحْمَدُ وقال أَبو حَنِيْفَةَ -رحمه الله- تنجز الفُرْقة، سواءً كان ذلك قبل المسيس، أو بعده وعن مالك -رَضِي اللهُ عَنْهُ- روايتان كالمذهبين.
لنا: أَنه اختلافُ دِين طرأ بعد المَسِيسِ، فلا يوجب الفسْخَ في الحال؛ كإِسلام أحد الزوجَيْنِ الكافرَيْنِ، ولو ارتدَّا معاً، فالحكم كما لو ارتد أَحدهما، وبه قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
وَقَالَ أبو حَنِيْفَةَ -رَحِمَه اللهُ- يستمر النِّكَاحُ بينهما، كما لو أَسلم الزوجان الكافران.
واحتجَّ الأَصْحَابُ بأَنها ردَّةٌ طَرَأَتَ على النكاح، فتعلّق بها الفسخُ كارتداد أَحدهما، وبأنَّ ردَّتهما أفحشُ من ردَّة أحدهما، فَأولَى أَن يتأثر بها النكاح.