قَالَ الغَزَالِيُّ: وَحَدُّ الإِكْرَاهِ أَنْ يَصِيرَ مُضْطَراً إِلَى الفِعْلِ شَاءَ أَمْ أَبَى كَالَّذِي يَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ فَيَتَخَطَّى النَّارَ وَالشَّوْكَ وَذَلِكَ لاَ يَحْصُلُ بِالتَّخْوِيفِ بِالحَبْسِ وَالجُوعِ وَأَمْثَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لاَ يُشْتَرَطُ سُقُوطُ الخِيَرَةِ وَالرَّوِيَّةِ بَلِ التَّخْوِيفُ بِالحَبْسِ وَالجُوعِ وَالضَّرْبِ وَمَا يَقْتَضِي العَقْلُ وَالحَزْمُ إِجَابَةَ المُكْرِهِ حَذَراً مِنْهُ فَهُوَ إِكْرَاهٌ يَدْفَعُ الطَّلاَقَ، وَكَذَلِكَ تَخْوِيفُ ذَوِي المُرُوءَةِ بِالصَّفْعِ فِي المَلأ وَالتَّخْوِيفُ بِقَتْلِ الوَلَدِ، نَعَمِ التَّخْوِيفُ بِإِتْلاَفِ المَالِ لاَ يُعَدُّ إِكْرَاهاً في القَتْلِ وَالطَّلاَقِ، وَيُعَدُّ إِكْرَاهاَ فِي إِتْلاَفِ المَالِ، وَالطَّرِيقَةُ الأُولَى أَضَمُّ للِنَّشرِ وَهَذِهِ أَوْسَعُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: لا بُدَّ في حصُول الإِكراه كون المُكْرِهِ غالباً قادراً على تحقيق ما يهدِّده به؛ بولاية أو تغلُّب أو فَرْط هجوم، أو كون المُكْرَه مغلوباً عاجزاً عن الدَّفْع؛ بفرار أو مقاومة أو استعانة بالغير، ولا بدّ وأن يَغْلِب على ظنِّ المطلوب أو تيقن أنه لو امتنع مما يَطْلُبه منْه أوقع به المَكْرُوه.
وعن أحمد -رحمه الله- روايةٌ: أنَّه لا يَحْصُل الإِكراه بذلك حتَّى يتحقَّق شيئاً ممَّا يتوعَّده (1) به، ويقْرُب من هذا ما حكى عن الماسرجسي، قال: سمعتُ أبا إسحاق يقول: لا إكراه إلاَّ بأن ينال بالضرب، والصحيحُ المشهورُ الأوَّل، واختلفوا فيما يكون التخويف به إكراهاً، فحَكَى الحناطي، والإِمام وغيرهما وجهاً أنَّه القَتْل لا غيْرُ.
وعن أبي إسحاق أنَّه القتل وقطْع الطَّرَف، وفي معناه الضرب الذي يُخَاف منه الهلاك، وعن ابن أبي هريرة وكثير من الأصحاب: أنَّه يلحق به الضرب الشديد، والحَبْس وأخْذ المال وإتْلافُه، وبهذا قال أبو عليٍّ صاحب الإِفصاح، وزاد، فقال: لو توعَّده بنوع استخفاف، وكان الرَّجُل وجيهاً يَغُضُّ ذلك منه، فهو إكراه، قال هؤلاءُ والضرب والحَبْس والاستخفاف تختلف باختلاف طبقات الناس وأحوالهم.
والتخويفُ بالقتل والقَطْع وأخْذِ المال لا يَخْتَلِف.
وقال الماسرجسي: يختلف التخويفُ بِأخْذ المال أيضاً، فلا يكون تخويفُ المُوْسِر بأخْذ خمسة دراهم منْه إكراهاً، قال القاضي الروياني: وهذا هو الاختيار، فهذه ثلاثة أوجه تشتمل عليْها كتب قدماء الأصحاب من العراقيين وغيرهم -رحمهم الله-.