وأما أن الاستحباب في الركعة الأولى آكد فلأن افتتاح قراءته في صلاته إنما يكون في الركعة الأولى، وقد اشتهر ذلك من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يشتهر في سائر الركعات، ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: الاستحباب، لما ذكرنا.
والثاني: لا يستحب في سائر الركعات، ويروى ذلك عن أبي حنيفة؛ كما لو سجد للتلاوة في قراءته ثم عاد إلى القراءة لا يعيد التعوذ، فكأن رابطة الصلاة تجعل الكل قراءة واحدة، وعلى هذا فلو تركه في الركعة الأولى عمداً أو سهوًا تدارك في الثانية بخلاف دعاء الاستفتاح، وسواء أثبتنا الخلاف في المسألة أم لا؟ فالأظهر أنه يستحب في كل ركعة، وبه قال القاضي أبو الطيب الطبري وإمام الحرمين والروياني وغيرهم، وبعضهم يروي في المسألة وجهين بدل القولين ومنهم إمام الحرمين والمصنف.
قال الغزالي: ثُمَّ الفَاتِحَةُ بَعْدَهُ متَعَيَّنَةٌ (ح) لاَ يَقُومُ (ح) تَرْجَمَتُهَا مَقَامَهَا، وَيسْتَوِي فِيه الإِمَامُ وَالمَأْمُومُ (ح) فِي السِّرِّيَّةِ وَالجَهْرِيَّةِ (ح) إِلاَّ فِي رَكْعَةِ المَسْبُوقِ، وَنَقَل المُزَنِيُّ سُقُوطَهَا عَنْ المَأْمُومِ فِي الجَهْرِيَّةِ.
قال الرافعي: للمصلي حالتان:
إحداهما: أن يقدر على قراءة الفاتحة.
والثانية: أن لا يقدر عليها، فأما في الحالة الأولى، فيتعين عليه قراءتها في القيام أو ما يقع بدلاً عنه، ولا يقوم مقامها شيء آخر من القرآن ولا ترجمتها، وبه قال مالك وأحمد، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: الفرض من القراءة آية من القرآن سواء كانت طويلة أو قصيرة، وبأي لسان قرأ جاز، وإن كان ترك الفاتحة مكروهًا والعدول إلى لسان آخر إساءة. لنا ما روي عن عبادة بن الصامت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" (1). ولا فرق في تعيين الفاتحة بين الإمام والمأموم في الصلاة السرية. وفي الجهرية قولان:
أحدهما: إنها لا تجب على المأموم، وبه قال مالك وأحمد لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- "انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِيَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: مَا لِيَ أُنَازعُ بِالقُرْآنِ فَانْتَهَى النَّاسُ عَن الْقِرَاءَةِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ" (2).