ذات لَبَنٍ، ومشاهدةُ هذه القرائن قد تفيد اليقين، وبتقدير أن لا تفيده، فتفيد الظن القويَّ، وذلك يسلُّط على الشَّهادة، فلا يكاد يُتيقَّن اليد والتصرُّف الدَّالَّيْنِ على الملْك. ولا يجوز أن يشهد على الرضاع؛ بأن يَرَى المرأة أخذَتِ الصبيَّ تحت ثيابها، وَأَدْنَتهُ منها، كما تفْعَلُ المرضعة، فإنَّه قد تُوجِرَهُ لبن غيرها في شَيْءٍ على هيئة الثَّدْي، ولا بأَنْ يسمع صوت الامتصاص، وقد يمتصُّ أصبعه أو أصْبُعَها. وذكر أبو الفرج السرخسيُّ أن مشاهدة الالتقام والامتصاص وهيئة الازدراد، هل تُحِلُّ له الشهادةَ مِنْ غير أن يَعْرِفَ كونها ذاتَ لَبَنٍ؟ حكى فيه وجهَيْن:
أحدهما: نعم، أخذ بظاهر الحال.
وأشبهَهُما: المنع؛ لأن الأصْل عَدَمُ اللبن، ولا يكْفي عند أداء الشَّهادة حكايةُ القرائِنِ؛ بأن يشهد برؤية الالتقام والامتصاص والتجرُّع، ولاَ يتعرَّض لوصول اللبن إلى الجوف، ولا للرضاع المُحَرِّم، وإن كان مُسْتَنَدُ عِلْمِهِ رؤيةَ تلْكَ القرائن؛ لأنَّ مُعَاينتِهَا تُطَّلِع على ما لا تُطَّلَع عليه الحكاية، فإن أطلعته على وصول اللبن، فلْيَجْزم به على قاعدة الشَّهَادَاتِ.
فرْعَانِ: قد سَبَق ما نُرْشِد إلى مثلهما.
أحدهما: تحته ثلاثُ صَغَائِرَ أرضعت أجنبيةٌ إحداهُن، ثم أرضَعَتْ أمُّ المرضعةِ أخْرَى، ثم أرضعَتْ بنْتُ المرضعةِ الثالِثَةَ، فنكاح الأُولَى لا يتأثر برضاعها وينفسخ نكاح الثانية عند إرضاعها؛ لصيرورتها خالةً للأُولَى، واجتماعهما في النكاح، وهل ينفسخ نكاحُ الأُولَى مع نكاح الثانية أم يختص الانفساخ بنِكَاحِ الثانية؟ فيه قولان، وعليهما يتفرَّع حكم الثالثة، إن حكَمْنا بانفساخ الأُولَى، بَقِيَ نكاح الثالثة، وإلا انفسخ نكاح الثالثة لصيرورتها بنْتَ أخْتِ الأُولَى، واجتماعهما في النكاح.
والثاني: أرضعَتِ امرأةٌ صغيرةً ثلاثَ رَضَعَاتٍ أو أربع فنكحها أو نكح إحداهما دون الأخْرَى، ثم أتمت العدَدَ، فكذلك ينفسخ نكاحُها، وفي كتاب القاضي ابن كج: أنَّه لو كان الصَّبِيُّ يرتضع الرضعة الخامسة، فمات أو ماتَتِ المرضعةُ قَبْل أن يتمها، ففي ثُبُوت التحريم وجهان، كالوجهين فيما إذا قطَعَت المُرْضِعَةُ الرَّضْعَةَ. وأنه وإن كانت تَحْتَه كبيرةٌ وصغيرةٌ (1) فَارْتَضَعَتِ الصَّغِيرةُ من الكبيرة، وهي ساكتة، فهل هو كما لو كانت نائمة، فارتضعَتْ منها الصغيرة، أو يقال سكوتها كالرِّضَى فيحال الفسخ على فِعْلِها فيه وجهان، والله أعلم بالصواب.
تم الجزء التاسع، ويليه الجزء العاشر
وأوله: "كتاب النفقات"