قَالَ الرَّافِعِيُّ: عرفت في أول الجِرَاحِ وقُوعَ الكلام في فَنَّيْنِ:
أحدهما: في موجِبِ القِصَاصِ.
والثَّانِي: في حُكْمِهِ بعْد الوجوب، وهو الذي نَخُوضُ فيه، وإذا وجب القصاصُ، فأما أن يُسْتَوْفَى أو يُترَك ويُعْفَى عنه، ففي الطرفين بابان: أما الأوَّل، ففيه ثلاثة فصول:
أحدها: فيمن يَلِي الاستيفاء.
والثاني: في كيفية الاستيفاء تعجيلاً وتأخيراً.
والثالث: في طريق الاستيفاء، وحفظِ المماثلة فيه ما أمكن.
أما الفصل الأول، فولاية الاستيفاء للمستحِقِّين، والقصاصُ يستحِقُّه جميع الورثة على فرائض الله تعالى، وحكى ابن الصبَّاغ وجهَيْن آخرَيْنِ للأصحاب:
أحدهما: أنه للعصباتِ خاصَّةً؛ لأن القصاص لرفع العارِ، فيختص بهم كولاية النكاح.
والثاني: أنَّه للوارثين بالنَّسَب دون الوارثين بالسَّبَب؛ لأن السبب ينقطع بالموت، والقصاص للتشفِّي فإذا انقطع السبَبُ، فلا حاجة إلى التشفِّي، والمذهبُ المشهورُ الأوَّل، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، ووُجِّه بأن القصاصَ أحدُ بدلي النفْس، فيستحقه جميعُ الورثة، كالدية، وُيروى؛ أن رجلاً قَتَل آخَرَ في عهْدِ عمرَ -رضي الله عنه- فطَالَب أولياؤه بالقَوَد، ثم قالت أخت القتيل، وكانت زوجة القاتِل: قد عَفَوْتُ عن حَقِّي فقال عمر -رضي الله عنه: عَتَقَ (1) الرجُلُ، والأشهر عن مالك أنَّ القصاصَ لا يثبُتُ إلا لِعَصَبات النَّسَب، وعنه رواية أخرى: أنَّه يثبتُ لرجال القرابة، حتى يستحقه الأخ للأمِّ أيضاً ورواية ثالثة: أنه يثبُتُ لرجَال القرابة، والأمُّ من جملة النساء، وإذا قُتِلَ من ليس له وارثٌ خاصٌّ، فهل للسلطانِ أن يقْتص من قاتله أو يتعيَّن أخْذُ الدية فيه قولان مذكوران في كتاب "اللقيط" وإن خلَّف بنتاً واحدةً أو جدةً أو أخاً لأم، فإن قلْنا: للسلطان استيفاءُ القصاص، إذا لم يكُنْ وارثٌ، استوفاه مع صاحب الفرض، وإلاَّ فالرجوع إلى الدية، ثم فيه صورتان:
إحداهما: إذا كان بعْضُ الورثة غائباً أو كانَ فيهِمْ صبيٌّ أو مجنونٌ انتظر حضورُ الغائِب أو مراجَعَتُه، وبلوغُ الصبيِّ أو إفاقَةُ المجنون، ولم يَكُنْ للحَاضِرِينَ والبالِغِينَ العُقَلاء الانفرادُ بالاستيفاءِ خلافاً لأبي حنيفة ومالك في الصبيِّ والمجنونِ؛ حيث قالاَ: