ثم إنْ لم يقصد الاصطدامُ بأن اتفق ذلك في ظلمة، أو كانا أعْمَيَيْن، أو مدَّبَّرَيْن، فاصطدما من خلفٍ، أو كان كل واحد منهما غافلًا عن الآخر، فهو خطأٌ محضٌ، فيجب على عاقلة كلِّ واحد منهما نصفُ دية الآخر مخفَّفة، وإن تعمَّد الاصطدام، فوجهان:
الذي نصره الأكثرونَ ونقل عن نَصِّه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في "الأم": أن القتلَ الحاصلَ شبْهُ عمد؛ لأن الغالب أنَّ الاصطدامَ لا يفضي إلى المَوْت، فلا يتحقَّق فيه العمدُ المحضُ؛ ولذلك لا يتعلَّق به القصاصُ، إذا مات أحدهما دون الآخر، وعلى هذا فيجبُ على عاقلة كلِّ واحد منهما نصفُ دية الآخر مغلَّظة، وعن أبي إسحاق؛ أن الحاصل عمْدٌ محضٌ، ويجب في تركة كلِّ واحد منهما نصْفُ دية الآخر، وهذا ما أورده صاحبُ الكتاب، والإمامُ، وجعل وجوب القصاص على الخلاف في شريكِ النَّفْس، وقال: إذا اصطدما مقبلَيْنِ، وقَصَدا الصدْمة، فالذي صدر عن كلِّ واحد منهما عَمْدٌ مَحْضٌ، وإذا كانا مقبلَيْنِ، واتفق الاصطدام، لا عن قصد، فهذا يلتحق بشبه العمد، وهذا غَيْرُ واضح.
وليعْلَمْ؛ لما ذكرنا، قولُه في الكتاب: "فهو في تَرِكَتِهِمَا" بالواو، ولو تعمَّد أحدهما الصدمةَ دون الآخر، فلكلِّ واحدٍ منهما حُكْمه.
وقوله في أوَّل الطرف: "كما إذا اصْطَدَمَ حُرَّان" أشار به إلَى أنه لو كان المصطَدِمان عبْدَيْن، كان الحكْمُ بخلاَف ما ذكرنا، وسيأتي من بعد.
الثانية: إذا كان المصطدمانِ راكبَيْن، فحكم الدية والكفَّارة ما بيَّنَّاه، ولو تلفت الدابتان، ففي تركة كلِّ واحد منهما نصْفُ قيمة دابة الآخر؛ لاشْتراكِهما في إتلاف الدابَّتَيْنِ، وعن أبي حنيفة، أنه يجب عَلَى كلِّ واحد منهما تمامُ قيمة دابَّة الآخر، ولا مجالَ في القيمة لتحمُّل العاقلة، وقد تقعُ في التقَاصِّ، ولا تقع الديةَ في التقاصِّ؛ لأنها تجبُ على العاقلَةِ، ويستحقُّها الورثة، ولو غَلَبَت الدابتان، وجرى الاصطدام، والراكبانِ مغلوبانِ، ففيه طريقانِ، نقلهما صاحبُ "التهذيب" وغيره:
أحدهما: أن هلاكهما وهلاك الدابَّتَيْنِ، والحالَةُ هذه، مُهْدَرَان؛ لأنه لا صنع ولا اختيار للراكبين فيما جَرَى، فصار كالهلاك بالآفة السماوية.
والثاني: أن الحُكْم كما لو لم يكُونا مغلوبَيْن؛ لأن الركوبَ كان بالاختيار، والركوبُ لا يتقاعَدُ في التَّسَبُّب عن حَفْر البئر، ولذلك كان الراكبُ في عُهْدة ما تتلفه الدابَّة، وهذا أظهرُ، إن أثبتنا الخلافَ.
والثاني: القطْعُ بأن المغْلُوب كغَيْره بخلافِ السفينَتَيْن؛ لأن السفينة تجْرِي بالرِّيح،