وعند أبي حَنِيْفَةَ: ما دون أَرْشِ المُوضِحَةِ، وهو يصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ لا يُضْرَبُ عليهم، واحْتَجَّ لِظَاهِرِ المذهب بأن النبي -صلى الله عليه وسلم-:"قضى بالغُرَّةِ على العَاقِلَةِ، وهي دون الثُّلُثِ" (1)، فإن الغُرَّةَ تقَابَل بخمس من الإِبِلِ.
وأيضاً، فإن العَاقِلَةَ إنما تَحَمَّلَتْ دِيَةَ النَّفْسِ كي لا يَجْحِفَ ذلك بِمَالِهِ، وهذا المعنى مَوْجُودٌ في الأَطْرَافِ والجِرَاحَاتِ.
قال الإِمام: وما عندي أن من لا يَضْرِبُ أُرُوشَ الأَطْرَافِ على العَاقِلَةِ ينبغي أن يُثْبَتَهَا (2) معجَلة كَقِيَمِ المُتْلَفَاتِ. ولا يبعد عن قياس.
الثاني من قَوْلَي القديم: إذا زَادَ الوَاجِبُ على ما دُونَ الثلث أن لا يحمل الكُلّ على العاقلة، بل يُقَالُ: ما دون الثُّلُثِ على الجاني أَبَداً، والزائد عليه مَحْمُولٌ.
والثانية: وهي مُفَرَّعَةٌ على الأولى: إذا كان الأَرْشُ نِصْفَ دِينَارٍ مَثَلاً، والعَاقِلَةُ جَمَاعَةٌ فيهم (3) كَثْرَةٌ، ففي كيفية تَحْصِيلِهِ وجهان:
أظهرهما: أنهم يُطَالبُونَ بنصف دينار مُشْترك؛ لِشُمُولِ جِهَةِ التَّحَمُّلِ لهم.
والثاني: أن القاضي يُعَيِّنُ (4)، واحداً أو جَمَاعَةً باجْتِهَادِهِ لكيلا (5) يَعْسَرَ الطَّلَبُ والتَّوْزِيعُ، وقد ينتهي الأمْرُ إلى أن يُخَصَّص كُلُّ واحد منهم مالاً يتموَّلُ، وهذا كالخلاف فيما إذا كَثُرَتِ العَاقِلَةُ في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، بحيث لو وُزَّعَ الوَاجِبُ عليهم لَأَصَابَ كُلَّ غَنِيٍّ دون النصف، وكُلَّ مُتَوَسَّطِ دون الربع (6)، وفيه قولان:
أحدهما: أن للإمام أن يُخَصِّصَ جَمَاعَةً يَضْرِبُ على أغنيائهم النِّصْفَ، وعلى المتوسطين الربع كيلا يَعْسَرَ التَّوْزِيعِ، ولا يكثر التَّعَبُ والمُؤْنَة.
وأصحهما: المنع؛ لأن الحَقَّ وَجَبَ على جَمِيعِهِمْ، فلا يُخَصَّصُ بَعْضُهُمْ بالمُطَالَبَةِ وإذا قلنا بالأول، فَبِأَيِّ طريق نُخَصَّصُهُمْ؟
حكى أبو الفَرَجِ السَّرَخْسِيُّ فيه وجهين، الذي أَوْرَدَهُ عَامَةُ الناقلين أن الإِمام يُخَصِّصُ من يراه باجْتِهَادِهِ.
والثاني: أنه يجعلهم فِرْقَتَيْنِ (7)، أو ثلاثاً، كما يقتضيه الحَالُ، ويُقْرعُ بينهم (8) والله أعلم.