ومن أَقرَّ عنده بما يُوجِبُ العُقُوبَةَ إما ابْتِدَاءً، أو بعد تَقَدُّم دَعْوَى، فَهَلْ يُعَرِّضُ له القاضي بالرجوع؟ نقل الإِمام فيه أَوْجُهاً:
أحدها: أنه لا يَفْعَلُ ذلك، واحتجَّ له بما رُوِيَ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنِ ارْتَكَبَ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ، فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللهِ -تَعَالَى- فَإِنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّ اللهِ تَعَالَى" (1). أَشْعَرَ ذلك بالفَرْقِ بين ما قبل الظُّهُوَرِ، وما بعده.
والثاني: أنه له ذلك سَتْراً، كما وأن له أن يُعَرِّضَ بألاَّ يُقِرَّ.
والثالث: الفَرْقُ بين أن يكون عَالِماً بجواز الرُّجُوع عن الإقرار بموجب الحَدِّ، فلا يُعَرِّضُ له، وبين أن يكون جَاهِلاً بالحال، فَيُعَرِّضُ له، ثَم نَسَبَ الإِمام الوَجْهَ الأول إلى الجُمْهُورِ، وبه أجاب صَاحِبُ الكتاب هاهنا، وفي "الوسيط".
والذي يُوجَدُ لِعَامَّةِ الأصحاب في كتبهم القَدِيمَةِ والجديدة أن للقاضي أن يُشِيرَ عليه بالرُّجُوع تَعْرِيضاً، فيقول في الإقرار بالزِّنَا: لَعَلَّكَ فَاخَذْتَ، أَو قَبَّلْتَ، أَو لَمَسْتَ، وفي شُرْبِ الَخَمْرِ: لَعَلَّكَ لم تَعْلَمْ أن ما شَربْتَ مُسْكِراً، وفي السرقة: لعَلَّكَ غَصَبْتَ، أو أُخَذْتَ بإذن المَالِكِ، أو من غير الحِرْزِ؛ لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لِمَاعِزٍ بعدما أَقَرَّ بالزنا (2): "لَعلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أوْ نَظَرْتَ، وأنه قال لمن أَقَرَّ عنده بالسرقة: لاَ إخَالُكَ سَرَقْتَ" (3). قالوا: وهذا إذا كان المقر جَاهِلاً بالحَدِّ، إما لِقُرْب عَهْدٍ بالإِسلام أو لأنه نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عن أَهْلِ العِلْمِ، وحكوا بعد الحُكْمِ بالجَواز وجهين في أنه هل يُسْتَحَبُّ للقاضي ذلك؟ أحد الوجهين: أنه يُسْتَحَبُّ لما ذكرنا.
وأظهرهما: المَنْعُ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-عَرَّضَ وأشار إلى الرُّجُوعِ في بعض الأَحْوَالِ، وتَرَكَهُ في أكثرها، ولو كان مُسْتَحَبّاً لما تَرَكَهُ.
ولا يحمل القاضي على الرُّجُوع والجحود صَرِيحاً بأن يقول: ارْجِعْ عن الإقرار أو اجْحَدْ، ولم يصححوا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَسَرَقْتَ؟ قُلْ: لاَ" (4).