ألا ترى أنه لو قتل المُحْرِمُ صيداً، صَالَ عَليه، دَفْعاً، لم يَلْزَمْهُ الجَزَاءُ، ولو سقطت جَرَّةٌ (1) أو نحوها من عُلْوِ طرف سَطْحٍ، فاستوت على رأس إنسان، وكان يخاف عليه منها، ولم يُمْكِنْ دَفْعُها إلا بالكَسْرِ والإِتْلاَفِ، فهل عليه الضمَّانُ إذا كسرها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ تنزيلاً لها مَنْزِلَةَ البهيمة الصَّائِلَةِ.
وأظهرهما: نعم؛ لأنه لا قَصْدَ ولا اختيار منها؛ بخلاف البهيمة وللمجنون اخْتِيَارٌ، وللأفعال إليه نِسْبَةٌ، ولو حَالَتْ بهيمةٌ بين الجائع، وبين طعامه في البيت، ولم يَصِلْ إليه إلا بِإتْلاَفِهَا، فهل يلزمه الضَّمَان بإتلافها؟ فيه هذان الوجهان:
في وجه: لا يجب؛ لأن وُقُوفَهَا وحَيْلُولَتَهَا (2) كالصِّيَالِ منها.
وفي الثاني: يجب؛ لأنها لا تَقْصِدُهُ، وإتْلاَفُهُ إياها لِدَفْعِ الهَلاَكِ عن نَفْسِهِ، كأكل المُضْطَرِّ طَعَامَ الغير، فإنه مُوجِبٌ للضمان، ويمكن أن يُجْعَلَ الأَظْهَرُ هاهنا نَفْيَ الضمان، كما ذكرنا فيما إذا عم الجَرَادُ المَسَالِكَ فتخطاها (3) المُحْرِمُ (4) وقتل بَعْضَها.
وقوله في الكتاب: "فكل من يُخَافُ منه الهَلاَكَ فدفع فهو هَدرٌ" لا شَكَّ أن من يخاف منه الهَلاَك كذلك، لكنه لا يَصْلُحُ ضَابِطاً للمدفوع، ولا يعتبر خَوْفُ الهَلاَكِ فيه، بل من قصد (5) التَّعَرُّضَ لنفس شَخْصٍ مَعْصُومٍ، أو لِعُضْوٍ من أعضائه، أو لمال، أو لبُضْعٍ، فيدفع ويُهْدَرُ إذا أتى الهَلاَكُ عليه.
وقوله: "وفي ضمان الجَرَّةِ المُطِلَّةِ" أي: المُشْرِفة، يقال: أَطَلَّ على الشيء، أي: أَشْرَفَ.
وقوله: "والجائعُ المُضْطَرُّ إلى طَعَامِ الغَيْرِ يأكل ويضمن" إنما ذكره في هذا المَوْضِعِ لُمُشَاكَلَتِهِ المسألة والتوجيه أحد الوجهين بها كما تَقَدَّمَ (6).
قال الغَزَالِيُّ: وَدَفْعُ الصَّائِلِ الكَافِرِ أَوِ البَهِيمَةِ وَاجِبٌ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِماً فَفِي جَوَازِ