وفي "دفع المجنون قولان مُرَتَّبَان، وأولى بوجوب الدفع" وقد تعكس القضية، ويجعل المجنون أَوْلَى بجواز (1) الاستسلام؛ لأن فعله لا يوصف بالتعدي، وهو أَوْلَى بالمُزَاحَمَةِ.
قال الغَزَالِيُّ: (أَمَّا المَدْفُوعُ عَنْهُ) فَكُلُّ مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ وَبُضْعٍ وَمَالٍ وَإِنْ قَلَّ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ غَيْرِهِ قيلَ في الوُجُوبِ قَوْلان، وَقِيلَ: يَجِبُ إذْ لاَ مَعْنَى لِلْإِيثَارِ هَهُنَا كَمَا في نَفْسِهِ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ لِأَنَّ شَهْرَ السِّلاحَ فِي الحِسْبَةِ إلَى السُّلْطَانِ، وَكَذَا الدَّفْعُ بِالسِّلاَحِ عَنْ شُرْبِ الخَمْرِ وَالمَعَاصِي قيلَ: يَجِبُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ لِغَيْر السُّلْطَان خَوْفاً مِنَ الفِتْنَةِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: أما المدفوع عنه، فهو كل مَعْصُوم، فيجوز الدفع عن النفس، وعن الأَطْرَافِ، والبُضْعِ، والمال إذا كانت مَعْصُومَةً، ويجوز لغير المَصُولِ عليه الدفع لحقنه، كما يجوز له الدفع لحقن نفسه، ويجوز الدَّفْعُ عن الذمي يَصُولُ عليه المسلم، وعن الابن الذي (2) صَالَ عليه أبوه، والعَبْدِ الذي صَالَ عليه سَيِّده، فإنهم مَعْصُومُونَ مَظْلُومون.
وفي "النهاية" حكاية قول عن القَدِيمِ: أنه لا يجوز الدَّفْعُ عن المَالِ إذا كان لا يتأتى الدَّفْعُ إلا بالقتل، أو قطع بعض الأعضاء، والظاهر الأول، وحُرْمَةُ مال المسلم في ذلك كَحُرْمَةِ دمه وهل يجب الدفع عن الغَيْرِ؟ فيه ثلاثة طرق (3):
أظهرهما: أن حُكْمَ الدفع عن الغير حُكْمُ الدفع عن النفس، يجب حيث يجب هناك، ولا يجب حيث لا يَجِبُ.
والثاني: القطع بالوُجُوب؛ لأن الإيثَارَ إنما يليق بِخَطِّ النفس، وأما سائر الناس، فلا يُؤَثِّرُ بعضهم على بعض.
والثالث: وينسبه الإمَامُ إلى معظم الأصوليين: القَطْعُ بالمنع؛ لأن شَهْرَ السِّلاحَ يُحَرِّكُ الفِتَنَ، وليس ذلك من شأن آحَادِ الناس، وإنما هو من وَظِيفَةِ السلطان، وعلىَ هذا فهل يحرم، أو يجوز من غير وجوب؟
حكي عنهم فيه اختلاف. والتحريم هو الذي أَوْرَدَهُ صاحب الكتاب.
وإذا قلنا بوجوب الدفع (4) عن الغير، فذلك إذا لم يَخَفْ على نفسه.