"القَادِسِيَّةِ" فَقَسَّمَ عمر -رضي الله عنه- رُبُعَ السَّوَادِ، فاشتغلوا ثَلاَثَ سِنِينَ، وأربعًا، ثم قَدِمْتُ على عمر -رضي الله عنه- فقال: "لولا أني قَاسِمٌ مَسْؤُولٌ لتركتكم على ما قسم لكم ولكني أرى أن تَرُدُّوا على الناس".
فَغَاصَبَنِي من حَقِّي نَيِّفاً وثمانين (1) دِينَارًا، وكان معي امْرَأَةٌ يقال لها: أُمُّ كُرْزٍ، فقالت: إن أبي شَهِدَ "القادسية" وثبت سَهْمُهُ، ولا أسلمه حتى يَمْلأَ كَفِّي دَنَانِيرَ وفمي لآلِئَ، ويُرْكِبَنِي نَاقَةً ذَلُولاً عليها قَطِيفَةً حَمْرَاءُ، ففعل عمر -رضي الله عنه- فتركت حقها، ثم اخْتَلَفَ الأصحاب فيما فعله بالأراضي المُستَرَدَّةِ على وجهين:
أظهرهما: وبه قال الأكثرون منهم الإصْطِخْرِيُّ وفقهاؤنا البصريون أنه (2) وَقَفَهَا على المسلمين، وأَجَّرَهَا من أهلها، والخَرَاجُ المضروب عليها أُجْرَةٌ مُنَجَّمَة تُؤَدَّى كُلَّ سَنَةٍ، وعلى هذا نَصَّ الشَّافعي -رضي الله عنه- في "كتاب الرُّهون"، وفي سِيَرِ الوَاقِدِيّ، وَيدُلُّ عليه ما روي أن عتبة بن فَرْقَدٍ اشترى أَرْضاً من أرض السَّوَادِ، فأتى عمر -رضي الله عنه- فَأخْبَرَهُ فقال: ممن اشْتَرَيْتَهَا؟ فقال؛ من أهلها؟ فقال: فهؤلاء المسلمون أبعتموه شيئاً؟ قالوا: لا. قال: فَاذْهَبْ فاطلب مَالَكَ.
وعن سفيان الثَّوْرِيُّ أنه قال: جَعَل عمر -رضي الله عنه- السَّوَادَ وَقْفًا على المسلمين ما تَنَاسَلُوا.
والثاني: وبه قال ابْنُ سُرَيْجٍ، ويُحْكَى عن اختيار أبي إِسْحَاقَ أنه باعها من أهْلِهَا، والخَرَاجُ ثَمَن مُنَجَّمٌ (3)؛ لأنه لم يَزَلِ الناس يَبِيعُونَ أَهْلَ السَّوَادِ وَيشْتَرُونَ من غَيْرِ إِنْكَارٍ، ومن قال بالوجه الأول لا يسلم عدم الإنْكَارِ، وقد رَوَيْنَا عن عمر -رضي الله عنه- في شراءِ ابن فَرْقَدٍ.
وعن ابن شُبْرُمَةَ أنه قال: لا أجيز بَيْعَ أَرْضَ السَّوَادِ، ولا هِبَتَهَا, ولا وَقْفَهَا، وقد أَوْرَدَ الوجهين معاً صَاحِبُ الكتاب في "الرَّهْن" واقْتَصَرَ هاهنا على إِيرَادِ الأَظْهَرِ منهما، وفيما فعل عُمَرُ -رضي الله عنه- على اخْتِلاَفِ الوَجْهَيْنِ عدول عن الأصل المُمَهّدِ، وأنه شَرْطٌ في الإجارة أن تكون المُدَّةُ مَعْلُومَةً، وفي البيع أن يكون جملة الثمن معلومةً، لكن قال العلماء: إنها بالاسْتِرْدَادِ رجعت إلى حُكْم الكُفَّارِ، وللإمام أن يفعل المَصْلَحَةَ الكلية في أموال الكفار ما لا يجوز مثله في أَمْوَالِ المُسْلِمِينَ، كما سيأتي إن شاء الله -تعالى- في مسألة العِلْجِ وكما نقل في البَدأَةِ والرَّجْعَةِ. ورأى عمر -رضي الله عنه-المصلحة (4) فيما فعل من وجهين: