وقال مالك في طرف النفْي: يَحْنَثُ بأكْل أحَدِ الرغيفَيْن، ولُبْس أحد الثوبي، وهو رواية عن أحمد، وساعَدَنا في طَرَف الإِثبات.
ولو قال: لا أُكلِّمُ زَيداً وعَمْراً ولا آكل اللَّحْم والعِنَب، فلا يحْنَثُ إلا إذا أكلهما، أو آكلهما، إلا إذا نوى غيْرَ ذلك؛ لأنَّ الواوَ العاطفةَ تجْعَل الجميعَ كالشَّيْءِ الواحد، فكأنه قال: لا أكلهما ولا آكلهما.
ويعود فيه خلافُ مالك وأحْمَدَ، ولو قال: لا أُكَلِّم زيداً ولاَ عَمْراً، ولا آكُلُ اللَّحْم ولا العنب، فَيَحْنَث بكُلِّ واحدٍ منْهما، وهما يمينان، وبالحَنِث في أحدهما، لا تنحل الأخْرَى، كما لو قال واللهِ، لا أكلِّم زَيداً واللهِ لا أكلِّم عَمْراً، قال الصَّيْدَلاَنِيُّ -رحمه الله- بمثله، لو قال: لا أُكلِّم أحدهما، أو واحداً منهما , ولم يقصد واحداً بعَيْنه، فيحْنَث إذا كلَّم أحَدَهُما، وتنحلُّ اليمين، فلا يَحْنَث بأن يكلِّم الآخر، قال في "التتمة": وهكذا في الإثبات، لو قال: لألْبَسَنَّ هذا الثَّوْب، وهذا الثوب، فهما يمينان لوجود حرف العطفَ، ولكل واحد حكمهما وفي هذا توقُّف، ولو أوجب حرف العطف كوْنَهُما يمينَيْن، لا كما إذا قال: لا ألبسهما، لأوجب في قوله: لا أكلِّم زيداً وعمراً، ولا آكل اللَّحْم والعنب كَوْنَهُما يمينين، لا كما إذا قال: لا أكلِّم هذَيْن الرجلَيْن، أو لا آكل هذَيْن الطعامَيْن.
وقوله في الكتاب: "لا بجميعهما" يعْنِي جميع الأكْلِ لهما، لا أنْ يأكلهما معاً.
فَرْعٌ: إذا قال: لا آكل هذا الرغيفَ، لم يحْنَث بأكْلِ بعْضِه، وأُجْرِيَ فيه خلاف مالك وأحمد -رحمهما الله- ولو قال: لاَكُلَنَّهُ، لم يَبَرَّ إِلاَّ يأكْل الجميع، فحكَى الصيدلانيُّ أن أبا حنيفة قال في الصورة الأُولَى: إِذَا بَقِيَ فُتَاتُ جرت العادة بأن الناس يَدَعُونَه، ولا يتكلَّفون التقاطه، حَنِث، وعندنا: إذا بقي ما يمكن التقاطُه وأكله، لا يِحْنَث، كما لو قال: لا آكلُ ما عَلَى هذا الطبَقِ من التَّمْر، فأكل ما عليه إلا تمرةً، لا يَحْنَث.
وإنْ جرَتِ العادةُ باستبقاء بعضِ الطعامِ للاحتشام من استيفائه، أو لغير ذلك، ولو قال: لاَكُلَنَّ هذِه الرُّمَّانَة، فترك حبَّةً، لم يبرَّ، ولو قال: لا آكُلُها، فَتَرَك حَبَّةً، لم يحْنَث، وفي "التتمة": أن عند أبي حنيفة: إذا كان المتْرُوك أقلَّ من الثلث، كان كما لو أكل الكُلَّ في طرفَي النفي والإِثبات جميعاً، وقد ذَكْرنا التصوير في الطَّلاَق، لكن لم نذْكُر خلافَ أبي حنيفةَ -رحمه الله-.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لاَ آكُلُ الرَّأْسَ لَمْ يَحْنَثْ بِرَأْسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ، وَيحْنَثُ بِرَأْسِ الإِبِلِ وَالبَقَّرِ، وَلاَ يَحْنَثُ بِرَأْسِ الظِّبَاءِ إِلاَّ إِذَا اعْتِيدَ أَكْلُهُ فِي مَوضِعِ فَيَحْنَثُ مَنْ