وذلك يقتضي مجيء الخلاف فيه، فيمكن أن يُعْلَمَ؛ لما بينا قوله في الكتاب "فلا يحنث" بالحاء والميم والزاي والواو.
وقوله: "ليس بعقد" بالحاء والميم، وهذا في ألفاظ المعاملات، وسيأتي خلاف في أنه، هَلْ يُحْمَلُ لفظ العبادات على الصحيح كما إذا حلف، لا يصوم، ولا يصلي؟ ولا خلاف أنه إذا حلف، لا يحج، يحنث بالفاسد؛ لأنه منعقدٌ، يجب المضيُّ فيه كالصحيح. ومن صور ما نَحْنُ فيه ما إذا حَلَف؛ لا يبيع بيعًا فاسدًا، فلا يحنث، إذا باع بيعًا فاسدًا، ذكره أبو بكر الصيدلانيُّ، والرويانيُّ، وقال الإِمام: الوجْهُ عندنا بأنَّه يحْنَثُ بصورة البيع والشراء، وعن أبي حنيفة: إذا باع بيعًا فاسدًا، وأقبض، حَنِث عند الأقباض، وفي التزويج والتزوج سَلَّم أنه لا يَحْنَثُ بالفاسد، إذا حلَفَ لعقد في المستقبل، فأما إذا قال: ما تزوَّجْتُ أو ما زوَّجْتُ، وكان قد تزوَّج، أو زوَّج فاسدًا قال: يحْنث، ونحن نقيس الماضي على المستقبل.
قَالَ الغَزَالِيُّ: وَلَوْ قَالَ: لا أَهَبُ مِنْهُ حَنِثَ بِالتَّصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالرُّقْبَى وَالعُمْرَى، وَبِالوَقْفِ أَيْضًا إِنْ قُلْنَا: يَمْلِكُهُ المَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: لا أَتَّصَدَّقُ لَمْ يَحْنَثْ بِالهِبَةِ، وَلَوْ قَالَ: لا مَالَ لِي حَنِثَ بِكُلِّ مَالٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَكَوِيًّا (ح)، وَيَحْنَثُ إنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى مُعْسِرٍ مُؤَجَّلاً أَوْ مُعَجَّلاً، وَيَحْنَثُ إنْ كَانَ لَهُ عبد آبِقٌ أَوْ مُدَبِرٌ، وَفِي المُكَاتَبِ وَأُمِّ الوَلَدِ خِلاَفٌ، وَلا يَحْنَثُ إنْ كَانَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةً دَارٍ بِالإِجَارَةِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذه البقيَّةُ تجمع صورًا.
منها: إذا حلف، لا يهب، فيحنث بكلِّ تمليك في الحياة خالٍ عن العوض؛ كالصدقة، والعُمْرَى والرُّقْبَى؛ لأنها أنواعٌ خاصَّةٌ من الهبة، كما لو حلف، لا يشتري، يحنث بقبول التولية، والإِشراك، والسَّلَم، وحكى القاضي ابن كج وجْهًا ضعيفًا: أنه لا يحنث بها، وخصص في "التتمة" هذا الوجه بالصدقة ووجهه بأنَّ الهبة، والصدقة يختلفان اسمًا ومقصودًا وحكمًا.
أما الاسم، فمَنْ تصدَّق على فقير، لا يُقَالُ: وهبَ منه، وأما المقصودُ بالصدقة التقرُّب إلى الله تعالَى، والهبةُ لاكتساب الموَدَّة.
وأما الحُكْم، فلأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يأكُلُ الصدقة، ويأكل الهدية والهبة (1) وأيضًا،