والثاني: المنع في الحالين والوجهان فيما إذا لم يتسع، ولم يتعذَّر مشهوران، فأما مع الاتساع والتعذر، قليلاً ما يُوجَد للأئمة -رحمهم الله- حكايةُ الخِلاَف فيه، وإنما الذي ذكروه جواز الاستخلاف، كما بيَّنَّا، لكنَّ إثبات الخلاف فيه يتأيد، بأن جواز التوكيل مع كثرة التصرفات وتعذر القيام بها يختلف فيه كما سبق في الوكالة (1)، فكذلك هاهنا، ثم يتعلق بالاستخلاف فُرُوعٌ:
أحدها: يشترط في الخليفة ما يشترط في القاضي، قال الشيخ أبو محمد، وغيره؛ لو فوض إليه أمراً خاصّاً، كفاه من العلم ما يحتاج إليه في ذلك الباب، حتى أن نائب القاضي في القرى إذا كان المفوَّض إليه سَمَاعَ البينة ونقلها دون الحكم، كفاه العلم بشرائط البينة، فلا يشترط فيه رتبة الاجتهاد.
الثاني: قال القاضي الرُّويانيُّ في "التجربة": نَصُّ الشافعيِّ -رضي الله عنه- في "المبسوط" يدل على أن الحاكِمَ الشافعيِّ لا يجوز أن يستخلف من يخالفه، والمذهب المشهور خلافه؛ لأن الحاكم يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده، بل لو شرط على النائب أن يخالف اجتهاده ويحكم باجتهاد المنيب، لم يجز، وكذا إذا جاز تولية المقلِّد للضرورة فاعتقاد مقلده في حقه كاجتهاد المجتهد، فلا يجوز أن يشترط عليه الحكم بخلاف اعتقاد مقلّده.
ولو خالف، وشرط الحنفي على النائب الشافعيِّ الحُكْمَ بمذهب أبي حنيفة، قال في "الوسيط": له الحكم في المسائل المتفقة بين الإِمامَيْن، وفي المختلف فيها لا يحكم، أما بمذهب أبي حنيفة، فلأنه يخالف معتقده، وأما بمذهب الشافعيِّ -رضي الله عنه- فلأنه غير مأذون فيه، وهذا حكم بصحة الاستخلاف، ورعاية للشرط، ولكن أقْضَى القُضَاة الماوَرْدِيَّ، وصاحِبَي "المهذَّب" و"التهذيب"، وغيرهم قالوا: لو قلَّد الإِمام رجلاً القضاءَ على أن يقضي بمذهب عَيَّنَه، بطل الشَّرْط والتقليد جميعاً، فقضية هذا: بطلان الاستخلاف هناك.
وفي فتاوى القاضي الحسين: أن الإِمام الحنفيَّ، إذا ولى شافعياً بشرط أَلاَّ يقضي بشاهد ويمين، ولا على غائب تصح التولية، ويلغو الشرط، حتى يقضي بما يؤدي إليه اجتهاده، فقضية هذا: ألا يراعى الشرط هناك، قال الماوَرْدِيُّ: ولو لم تجز صيغة الشرط، ولكن قال الإِمام: قلدتك القضاء، فاحْكُم بمذهب فلان، ولا تحكم بمذهب فلان، صح التقليد، ويلغو الأمر والنهي، وكان يجوز أن يجعل هذا الأَمْر شرطاً وتقييداً، كما لو قال: قلَّدتُّك القضاء، فاقْضِ في موضع كذا، وفي يوم كذا.
ولو قال: لا تحكم في قتل المسلم بالكافر، والحرِّ بالعبد، جَازَ، وكان قَصْراً