فإجارةُ أو جَعالَةٌ، وأما التقرُّب والتودُّد إلى المُهْدَى إلَيْه، وذلك إمَّا أن يطلبه لنفسه، فهو هديَّةٌ، أو ليتوسَّلَ بجاهه إلى أغراض ومقاصد، فإن كان جاهه بالعِلْم أو بالنَّسَب، فهو هدية، وإن كان بالقضاء والعمل، فهو رشوةٌ، والله أعلم.
وقوله في الكتاب: "فإن قبلها، فهو سُحْتٌ" بعد قوله: "ولا يقبل الهدية ممن له خصومةٌ" ولا بأس به ليتبين أن المراد من قوله لا يقبل التحريم؟ وليرتب عليه قوله وفي دُخُولهِ في ملكه وجهان: وقوله: "من لا خصومة له، فلا يَحْرُمُ أخْذُهُ" ظاهر إطلاقه نفي التحريم، إنْ كان المُهْدِي مِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عادَتُه بالهديَّة، وكذلك في "الوسيط" صريحًا، والمشهور خلافه كما بيناه.
قَالَ الغَزَالِيُّ: الثَّامِنُ: أَلاَّ يَعَزِّرَ مَنْ أَسَاءَ أَدَبَهُ فِي مَجْلِسِهِ إِلاَّ بَعْدَ الزَّجْرِ بِاللِّسَانِ والإِصْرَارِ، فَإنْ كَذِبُ الشَّاهِدِ عَزَّرَهُ عَلَى المَلأَ وَنَادَى عَلَيْهِ.
قَالَ الرَّافِعِيّ: مقصود الفصل أنه كيف يُعزِّر من أساءِ أدبه في مجلسه ومن شهد بالزور عنده، أما الأول، فمن أساء من الخصوم الأدب في مجلسه؛ بأن صرح بتكذيب الشهود، أو ظَهَر منه مع الخصوم لَدَدٌ ومجاوزةُ حَدٍّ، فَيُزْجَرُ عنه، وينهاه، وإن عاد ثانيًا هدَّده، وصاح عليه، فإن لم ينزجِرْ، عزَّره على ما يقتضيه الاجتهاد من التوبيخ وإغلاظ القول له، بأن يقول: أنت متعدٍّ غيْرُ منصف، ومن الحبس والضرب، ولا يحبسه بمجرَّد ظهور اللَّدَدِ، وعن الإِصطخرِّي؛ أنه على قولَيْن، وذكر في التتمة: أنَّه إنما يضربه بالدّرّة، دون السياط إذ الضربُ بالسياط من شأن الحُدُود.
وهذا غيْرُ مسلَّم، بل الضربُ بالسياط مشروع في غير الحدود، ألا تَرَى أن لفْظَ الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- في تعزير القاضي شاهِدَ الزُّورِ، حيث قال: عَزَّرَه، ولم يبلغ بالتعزير أربعين سوطًا، ومثال اللدد أن يتوجَّه اليمين على الخَصْم، فيطلب يمينه، ثم يقطعها علَيْه، ويزعم أن له بيِّنَةً ثم يحضره ثانيةً وثالثةً، ويفعل مثل ذلك، وكذا لو حَضَر إنسانًا، وادَّعَى عليه، وقال: لي بيِّنةٌ سأحضرها، وفعل ذلك مرةً ثانيةً وثالثةً إيذاءً وتعنتًا.
ولو اجترأ خصْمٌ على القاضي، وقال: أنتَ تجورُ أو تميلُ أو أنتَ ظالِمٌ، جاز أن يعزِّره، وأن يعْفُوَ عنه: والعفْوُ أولَى؛ إن لم يحمل على ضعفه، والتعزيرُ أَوْلَى إن حُمِلَ عليه. وأما الثاني: فشهادة الزور من الكبائر؛ يُرْوَى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "عدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالاِشْرَاكِ بِاللهِ تَعالَى" (1) وتلا قوله سبحانه وتعالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا