يُخرجَّان على الفَرْقَيْن إن قلْنا بالثاني، فرد شهادته لا يُظْهِر فسْقَه، فإنه ظاهرٌ، وهو غير مبالٍ بفسقه يعدُّه عاراً، كالكافر، فوجب أن يُقْبل وإن قلْنا بالأول، فقد جرى الحكم بردِّ شهادته لكن بفسقه هذا إنَّما يتضحّ أن لو أصغى القاضي إلَى شهادته مع ظهور فِسْقه، فإنَّه ظاهرُ، وهُوَ غَيْر مبالٍ بفسْقِهِ ثم ردَّها وفيه وجهان، الذي ذكره الشيخ أبو محمَّد، واستحسنه الإِمامُ -رحمهما الله- أنه لا يصغى إليها كشهادة العبدِ والصبيِّ، ولو كان الكافرُ مستسِرّاً بكُفْره، وردَّتْ شهادته، ثم أسلم، وأعادها حكى القاضي ابنُ كجِّ في قَبُولها وجهَيْن، لكنَّ قياس الفريقين جميعاً ألاَّ يقبل، أمَّا الأوَّل؛ فلأنَّ شهادته تَحْتَاج إلى النَّظَر والاجتهاد؛ لاستسراره، فإذا جرى الحُكْم بردِّها، وجب ألاَّ يقبل، وأما على الثاني، فلأنَّ ردَّ شهادته يُظْهِر دينه، فيفتضح به ويتغيَّر، فيكون متهماً في الإِعادة.
ولو شهِدَ عَلى إنسان، فردَّت شهادتُه لعداوةٍ بينهما، ثم زالت العداوةُ فأعاد تلْك الشهادة، فوجهان أيضاً.
وجْهُ القَبُول: أن العداوة سَبَبٌ ظاهرٌ، فالرد بها لا يُورثُ عاراً، ووجه المنع: أنها شهادةٌ رُدَّتْ للتهمة، فإذا أعيدَتْ، لم يُقْبَلُ شهادة الفاسِقِ، وهذا أصحُّ؛ على ما ذكر صاحبا "المهذب" و"التهذيب" -رحمهما الله- ويجري الوجهان فيما لو شَهِدَ لمكاتَبهِ بمالٍ أو لعبْدِهِ بنكاحٍ، فردت شهادته، فأعادها بعْدَ عَتْقِهِما، والذي أجابَ به ابنُ القاصِّ في هذه الصورة القَبُولُ، ويجريان فيما إذا شَهِدَ اثنان من الشفعاء بعفوِ شفيعٍ ثالثاً قبل أن يعفو فردَّت شهادتُهما ثم أعادها بَعْدَ ما عَفَوَا وفيما إذا شهد اثنان يرثان من رجُلٍ بجراحةٍ عليه غيره مندملةٍ، فردت شهادتُهما، ثم أعادها بعد اندمال الجِرَاحَة.
فرع: عن "أمالي" أبي الفَرَج: شهد فَرْعَانِ على شهادة أصْلٍ، فردت شهادتُهما بفسق الأصلِ، فقد صارت شهادة الأصل مردودةً، فلو تاب، وشهدَ بنَفْسه، وأعاد الفرعان شهادتهما على شهادته أو شَهِدَ عَلَى شهادته فرعان آخرانِ، لم تُقْبَلْ، ولو رُدَّت شهادة الفرعين، لفسقهما، لم تتأثَّر به شهادةُ الأصْل.
قَالَ الغَزَالِيُّ: السَّادِسُ: الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بالمُبَادَرَةِ قَبْلَ الدَّعْوَى فَلاَ تُقْبَلُ، وَبَعْدَ الدَّعْوَى وَقَبْلَ الاسْتِشْهَادِ وَجْهَانِ، فَإنْ لَمْ تُقْبَل فَهَلْ يَصِيرُ بِهِ مَجْرُوحًا فِيهِ وَجْهَانِ، وَلَوْ جَلَسَ مُخْتَفِياً فِي زَاوِيَةِ لَتَحَمُّلِ شَهَادَةِ قُبِلَتْ (م و) وَلاَ تُحْمَلُ عَلَى الحِرْصِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمِنْ أَسبَاب التُّهْمَةِ الحِرْصُ عَلى الشَّهَادة بالمَبَادَرة، واعلم أن الحقوق على ضربَيْن، ضَرْبٍ لَا يَجُوز المبادَرَةُ إلَى الشَّهادة عَلَيْهِ، وضرب يجُوزُ، وتُسمَّى الشهادةُ عليه عَلى وجه المبادرة شهادةَ الحِسْبة، وستعرف أنواعها في الفَصْل التالي لهذا الفصْل: فحيث لا يجُوزُ، فالمبادُرِ متَّهم، فلا تُقْبلُ شهادته، وفي الخبر أنه -