وأَقْوَاهُمَا وبه قال أبو حَنِيْفَةَ، واختاره المُزَنِيُّ: أنها صَحِيحَةٌ؛ لأن المقصود قَطْعُ اسْتِيلاَئِهِ عنه وَدَفْعُ الذُّلِّ، وإذا كَاتَبَهُ خرج عن تَصَرُّفِهِ، وفيه نظر لِلْعَبْدِ لِتَوَقُّعِ العِتْقِ، فإن عجز، أَمَرْنَا بإزالة المِلْكِ عنه، وعلى الأول فيؤمر (1) بِإِزَالَتِهِ في الحَالِ، فإن أَدَّى النُّجُومَ قبل أن يتفق إِزَالَةُ الملك، عُتِقَ بحكم الكتابة الفَاسِدَةِ.
ويقال بإيراد آخَرَ -وقد قَدَّمْنَاهُ في "البَيْعِ"- هل يكتفي منه بالكِتَابَةِ؟ فيه وجهان:
إن قلنا: نعم، فهي صَحِيحَةٌ، وإلاَّ ففي صِحَّتِهَا خِلاَفٌ. ولو كَاتب الذِّمِّيُّ عَبْدَهُ فَأسْلَمَ المُكَاتَبُ؛ فهل ترتفع الكِتَابَةُ؟ فيه وجهان مُرَتَّبَانِ على الخِلاَفِ في أنه إذا أَسْلَمَ عبده وكاتبه هل يصح؟ أو هل يكتفي منه بالكِتَابَةِ؟
إن قلنا: نعم؛ فإذا طَرَأَ الإسْلاَمُ على الكِتَابَةِ لم يُؤَثِّرْ فيها وإن قلنا: لا؛ ففي ارْتفَاعِهَا وَجْهَانِ، والفَرْقُ قُوَّة الدَّوَامِ ووجه المنع أيضاً بأن الكِتَابَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً، ولا يمكن أن يُؤْمَرَ بِإِزَالَةِ المِلْكِ، فإن بَيْعَ المُكَاتَبِ لا يَجُوزُ، فإن عجز فحينئذ يُؤْمَرُ.
واعلم أن هذه الصُّورَةَ مُكَرَّرَةٌ؛ فقد ذكرها مَرَّةً في "التدبير" مضمومة (2) إلى ما شَابَهَهَا؛ وهو ما إذا دَبَّرَ الكَافِرُ عَبْدَهُ ثم أسلم مُدَبِّرُهُ فقال: "والمُكَاتَبُ كَالمُسْتَوْلَدَةِ".
وقيل: كالمدبر ة. وقوله: هاهنا "فيه وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ"، فيؤدي معنى الطريقين، إلاَّ أن الخِلاَفَ هناك عند من أَثْبَتَهُ أُخِذَ من الخلاف في صورة التدبير، وهاهنا من الخِلاَفِ في صِحَّةِ الكتابة إذا تَقَدَّمَ الإِسْلاَمُ عليها.
المسألة الثالثة: كما يصح كِتَابَةُ الذِّمِّيِّ، تصح كِتَابَةُ الحَرْبِيِّ؛ لأنه مَالِكٌ.
وعن مالك وأبي حَنِيْفَةَ خِلاَفُهُ.
ثم لو قَهَرَهُ السَّيِّدُ بعدما كاتبه، ارْتَفَعَتِ الكتابة وصار قِنّاً. ولو قَهَرَ المُكَاتَبُ سَيِّدَهُ صَار حُرّاً، وصار السَّيِّدُ عَبْداً؛ لأن الدَّارَ دَارُ قَهْرٍ، ولذلك لو قَهَرَ حُرٌّ حُرّاً هناك مَلِكَهُ، بخلاف ما لو دخل السَّيِّدُ والمُكَاتَبُ دَارَ الإِسْلاَمِ بِأَمَانٍ، ثم قهر أحدهما الآخر لا يَمْلِكُهُ؛ لأن الدَّار دَارُ حَقٍّ وإِنْصَافٍ.
وإن خرج المُكَاتَبُ إلينا مُسْلِماً، هَارِباً من سَيِّدِهِ، بطلت الكتابة، وصار حُرَّاً؛ لأنه قَهَرَهُ على نَفْسِهِ، فيزول مِلْكُهُ عنها. وإن خرج إلينا غَيْرَ مُسْلِمٍ نُظِرَ:
إن خرج بِإِذْنِهِ، وبأمَانِنَا لِتَجَارَةٍ وغيرها، اسْتَمَرَّتِ الكِتَابَةُ، كما لو خرج السَّيِّدُ إلينا بِأمَانٍ.