وأظهرهما: أن فيه قولين؛ ثم إن جوزنا ففي كيفيته قولان كما ذكرنا في المحارب؛ وقد نقل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأقَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْماً يَقْصُرُ فِيهَا الصَّلاةَ" (1).
أشعر هذا الإطلاق بأن حكم الحرب وغيره سواء.
وإذا اختصرت قلت في جواز القصر في هذه الحالة الأولى طريقان:
أظهرهما: أن فيه ثلاثة أقوال سواء المحارب وغيره.
أحدها: منع القصر على الإطلاق.
والثاني: جوازه على الإطلاق وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد والمزني -رحمهم الله- تعالى.
والثالث: وهو الأصَحُّ جوازه إلى ثمانية عشر يوماً والمنع بعده.
والطريق الثاني: أن هذه الأقوال في المحارب وفي غيره يقطع بالمنع.
الحالة الثانية: أن يكون الشُّغل بحيث يعلم أنه لا يتنجز في ثلاثة أيام، ونتكلم فيها أيضاً في المحارب ثم في غيره، فأما المحارب فقد أطلق في "الوسيط" ذكر قولين فيه:
أحدهما: أن له القصر، لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض الغزوات.
والثاني: المنع؛ لأنه المقيم، ومجرد القتال لا يرخص وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- محمول على عزم الارتحال كل يوم، والأحسن ما أشار إليه إمام الحرمين وهو ترتيب هذه الحالة على الأولى. إن قلنا: المحارب ثَمَّ لا يقصر، فهاهنا أولى، وإن قلنا: يقصر، فهاهنا قولان:
والفرق أنه متردد ثَمَّ وهاهنا مُطْمَئِنُّ ساكن بعيد عن هيئة المسافرين، وإن قلنا: يترخص، فهل يزيد على ثمانية عشر يوماً؟ فيه قولان؛ كما في الحالة الأولى.
وأما غير المحارب -كالمتفقه والتاجر تجارة كثيرة- فظاهر المذهب أنه لا يترخص وهو مقيم؛ لأن ارتحاله موقوف في عزمه على تنجز شغله، وذلك غير متنجز في المدة التي يحتمل إقامتها؛ وقياس التسوية بين المحارب وغيره عود الخلاف هاهنا، وقد أشار إليه صاحب "النهاية" واستنكره وقال: هو نتيجة التفريع على الأقوال الضعيفة.
إذا عرفت حكم الحالتين، فارجع إلى لفظ الكتاب. واعلم أن ثانيتهما في الشرح أولاهما في نظم الكتاب؛ وأن قوله: (فهو مقيم إلا إذا كان الغرض قتالاً) يجوز أن يعلم لفظ (المقيم) بالواو، للوجه الذي ذكرناه الآن في غير المحارب.