باب
القول في أقسام الصحيح من الأخبار
الأخبار التي يعمل بها ضربان: مشهور، وغريب.
فالمشهور: ضربان، ما بلغ حد التواتر، وما اشتهر ولم يبلغ حد التواتر.
والغريب: نوعان، ما لم يشتهر، ولكنه لم يدخل في حد الاستنكار، وما دخل في حد الاستنكار.
وأما المتواتر: فحده ما مر في أول الكتاب، وهو أن يتصل بك عن المخبر اتصالًا لا يبقى لك شبهة فيه، كما يتصل بقلبك من طريق السماع من المخبر نفسه، وذلك بأن ينقل إليك قوم لا يتوهم في العادات تواطؤهم على الكذب لكثرتهم، وبعد أماكنهم عن قوم مثلهم، حتى يكون آخر طرفيه كأوله، وأوسطه كطرفيه.
وحكمه: أنه يوجب العلم يقينًا كما يكون بالسماع.
وقال بعض الناس: إن المتواتر من الأخبار لا يوجب علم اليقين، وإنما يوجب علم طمأنينة، وذلك لأن اليهود والنصارى نقلوا قتل عيسى نقلًا متواترًا وإن كان كذبًا، وهم أكثر منا عددًا.
والمجوس نقلوا معجزات زرادشت نقلًا متواترًا وكان كذبًا.
وإذا رجعت إليهم كانوا على طمأنينة القلب بصدق ما عندهم من الخبر كما نحن بما لدينا من الأخبار المتواترة من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وآياته ثم إنهم لم يكونوا على يقين. فلم وجب لنا اليقين بمثله.
وكذلك الرجل يعلم بحياة الرجل يقينًا، ثم يمر بداره فيسمع النياح ويرى أعلام الموت، ويرى المأتم، فيقولون: إنه قد مات، فيعزيهم ويعزونه، ويطمئن قلبه إلى العلم الحادث، ويزول الأول على احتمال أنه حيلة وليس بحقيقة.
قال العبد رضي الله عنه: وهذا مع الحجة قول رذل. لأنه زعم أنه لم يعرف رسولًا من الرسل، ولا كتاب الله، ولا أباه، ولا أمه، لأنه ما توصل إلى علمهم إلا بالخبر، ولم يعرف أنه مولود، وكان قبله بشر من جنسه. ومن قال: إني لا أعرف ذلك فقد أبطل دينه قبل كل شيء، ثم عقله، لأنا إذا رجعنا إلى قلوبنا التي هي معدن المعرفة، وجدناها عارفة بالآباء والأمهات عن خبر متواتر مثل معرفتنا بالبنين والبنات عن عيان، ووجدناها تعرف