باب
القول في شرع الرسول صلى الله عليه وسلم من تلقائه بالرأي
قال بعض العلماء: لم يكن له إلا بالوحي.
وقال بعضهم: لم يكن له ذلك إلا بالوحي والإلهام.
وقال بعضهم: كان له ذلك بالوحي والرأي جميعًا.
والقصد عندنا أن نقول: لم يكن له الشرع بالرأي ابتداء حتى ينقطع طمعه عن الوحي فيما ابتلي به، ثم كان له العمل برأيه بعد ذلك.
فأما الأول فاحتج بقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى} وبقوله: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} ولأنه لا يجوز أن يخالف فيما يشرع من الأحكام، ولو كان يشرع برأيه لكان لا يؤمن من الغلط عليه فكان يجوز خلافه، كما كان يجوز ذلك في رأي الحروب والمعاملات فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد النزول دون الماء يوم بدر فقال له الحباب بن المنذر: أرأي رأيته أم وحي؟ فقال: "بل رأي" فقال: إني أرى أن تنزل على الماء، ففعل.
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب أن يعطي الكفار شطر ثمار المدينة فقالت الأنصار: أرأي رأيته أم وحي؟ فقال: "بل رأي" فقالت: لا نعطيهم إلا السيف ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
ولما دخل المدينة نهاهم عن تأبير النخل ففسدت فأمرهم بالتأبير فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنا أعلم بأمور دينكم"
فثبت أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن معصومًا عن الغلط برأيه.
والدين في الأصل لله تعالى فما يجوز شرعه برأي لا يؤمننا عن الغلط إلا عن ضرورة، ولا ضرورة لصاحب الوحي وكان هذا كتحري القبلة بالرأي فإنه جائز لمن نأى عن الكعبة للضرورة، ولا يجوز لمن قرب لقدرته على العيان الذي لا شك فيه، ولأنا نحن اليوم لا ننصب شرعًا مبتدأ بالرأي وما يجوز لنا ذلك وإنما نعدي شرعًا ثابتًا في محل إلى محل آخر.