باب
القول في شريعة من قبلنا
اختلف أهل العلم في شريعة من قبلنا؟
فقال قائلون: الشريعة إذا ثبتت لنبي عليه السلام بقيت له كذلك ما لم تنسخ.
وقال بعضهم: تنتهي شريعته إذ بعث نبي آخر إلا فيما لا يقبل النسخ والتوقيت.
وقال بعضهم: لا تنتهي وتبقى حقًا، ولكن شريعة للنبي الذي بعث بعده.
والقول القصد أن ما حكى الله من شرائع سائر الأنبياء لنبينا ولم يعقب بنسخ بقيت حقًا شريعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما لم يحكها، وقد احتج محمد بن الحسن رحمه الله بقسمة الشرب بقوله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر}، وبقوله: {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}.
فأما الأولون فقد ذهبوا إلى أن التوقيت لا يثبت إلا بالنص.
وأما الحجة للقول الثاني فإن الله تعالى كان يبعث الرسول إلى قوم دون قوم في زمنه وكانت الرسالة وشريعته تختص بالمكان فجاز مثله في الزمان، فلا تعم شريعته الأزمنة إلا بزيادة دلالة كما لا تعم الأمكنة إلا بزيادة دلالة، ولأنه قد كان في زمان واحد نبيان في مكانين ولم يكن يلزم شريعة كل واحد منهما صاحبه فكذلك في الزمانين قال الله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}، وقال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به} فجعلهم بعد مبعث نبي آخر بمنزلة أمته فثبت أن شريعتهم انتهت به.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صحيفة في يد عمر فقال له: "ما هذه الصحيفة؟ " فقال: التوراة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لو كان موسى حيًا لما وسعه إلى اتباعي" فبين أنه كان يصير بمنزلة واحد من أمته وأن شريعته قد انتهت به.
ولأن النبي الثاني يدعو الناس إلى شريعته لا محالة فلم يجز أن تبقى الشريعة الأولى معه، وهو كان يدعوهم إلى نفسه لأنه لا يجوز أن يدعى واحد إلى نبيين مختلفين كل واحد منهم يدعي الاختصاص بالاتباع إياه لما فيه من التعارض ألا ترى أنه لما تصور