وكذلك قوله: "اقتدوا باللذين من بعدي" أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في أنهما عملا بالرأي بعد الكتاب والسنة فثبت أن معنى الاقتداء الاهتداء بهم، والاهتداء يكون على معنى طلب الصواب بالرأي من أقوالهم دون التقليد، ألا ترى أنه شبههم بالنجوم وإنما يهتدى بالنجم بعد الاستدلال بالرأي بناء عليه، فكذلك الاهتداء بهم إنما يكون بالرأي بناء على أقوالهم لا بنفس القول.
وعن أصحاب عبد الله بن مسعود أن ابن عباس كان يدعونا إلى الطعام وكان يجري المسائل وربما كان يخطئ وما كان يمنعنا من الرد عليه إلا أنا كنا على طعامه ولو وجب تقليده لما كان المانع طعامه إلا ما لا يعرف بالقياس، لأنه لا يظن بهم القول جزافًا، فإذا بطل الرأي لم يبق إلا السماع إلا أنه يشكل عليه قول التابعي بخلاف القياس.
وكذلك قول من بعده إذا كان فقيهًا عدلًا وليس هذا كالراوي إذا عمل بخلاف ما روى فإنه يحمل على أنه علم بانتساخ ما روى، وإن لم يرو حملًا لأمره على الصلاح لأنه لو لم يحمل عليه لكنا فسقناه وأبطلنا روايته كما أبطلنا بالوجه الأول فلم نصر إلى التفسيق بلا فائدة.
فأما ههنا فنحتاج إلى رد القياس متى حمل قوله عن سماع فلم يجز رد الدليل بموهوم حال.
ويمكن أن يقال: قد ثبت بالنص أنهم كالنجوم يهتدى بهم فثبت في الجملة أن قول من هو من أهل الاجتهاد منهم لا يخرج عن الصواب بل يكون بحيث يهتدى به وذلك بقياس أو نص.
فإذا بطل أحدهما تعين الآخر بخلاف من بعده لأن الصحابي أصل علمه من صاحب الوحي فلا تجعل فتواه منقطعًا عن السماع إلا إذا ظهر دليل غيره، وهو الرأي ولا يحكم بالانقطاع بالاحتمال فأما غير الصحابي فعلمه منقطع عن السماع إلا بواسطة فلا يحكم بالاتصال مع عدم الواسطة بالاحتمال، أو نقول: معناه أن الصحابة إذا اختلفوا لم يجب الوقوف بحكم التعارض كما في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وآيات الكتاب، بل بأي قول عمل به وقع الاهتداء.
فصل
ولهذا لم تحمل أقوال الصحابة إذا اختلفت بعضها على بعض بخلاف آيات الكتاب لأن الصحابي كان يفتي عن الرأي، وكان يجوز للآخر خلافه برأيه مع علمه بالأول، وكان قول كل واحد منهما حجة يعمل بها فلم يطلب جهة التوفيق بينهما لثبوتهما كالمقاييس اليوم إذا تعارضت عمل بواحد منها ولم يجب الوقف.