باب
القول في الاحتجاج بلا دليل
قال بعض الفقهاء: لا دليل حجة للنافي على خصمه ولا يكون حجة للمثبت، وكان أبي رحمه الله على هذا يحكيه عن مشايخ العراق.
وقال بعضهم: لا دليل، حجة دافعة لا موجبة.
وقال بعضهم: لا دليل، حجة على الخصم لإبقاء ما ثبت بدليل، لا لما لم يصح ثبوته بدليل، وقد دلت عليه بعض مسائل الشافعي.
وقال بعضهم: هذا الذي قاله الشافعي يكون حجة له في حق الله تعالى، ولا يكون حجة على خصمه بوجه وقد دلت عليه مسائل علماؤنا على ما نذكر.
فأما الأول فاحتج بأن أقول الخصومات الخصومة في النبوة والنبي صلى الله عليه وسلم كان مثبتًا، والقوم نفاة وكانوا لا يطالبون بحجة سوى أن لا دليل على النبوة.
ولأن معنى قولنا: لا دليل على النافي لا دليل على المتمسك بالعدم لأن العدم ليس بشيء والدليل يحتاج إليه لشيء هو مدلول عليه، والتمسك به واجب ما لم يقم عليه دليل الوجود، ولهذا كان القول قول المنكر في الشرع.
وأما الآخرون فيقولون: أن عدم الدليل لا يوجب عدمًا، ولا أثر له في العدم على ما مر في باب الوصف الذي هو علة، ولكن يكن دلالة عليه لتعلق الحدث بمحدث ضرورة، فيدل عدم المحدث أصلًا على انعدام الحدث، وعدم الدليل ثابت في حق هذا القائل دون خصمه.
فإن خصمه يدعي قيام الدليل عنده، وقول المنكر ليس بحجة عليه فجائز العلم بالدليل لبعض دون البعض، وجائز الغلط على الذي يدعي قيام الدليل عنده، فلا يثبت الدليل بقوله على النافي ولا يثبت العدم على المدعي بإنكار النافي، فكما جاز الغلط أو الكذب على المدعي جاز الكذب أو الجهل على المنكر فصح إنكاره الدليل للدفع عن نفسه حتى لا يلزمه كلام خصمه، ولم يصلح للإلزام والإيجاب.
وأما الفريق الثالث فيقول: لا دليل لا يكون دليلًا بنفسه، كما أن لا حجة لا تكون حجة بل تكون نفيًا له، ولا زيد لا يكون زيدًا هذا مما لا شك فيه، فلا يمكن أن يدعي أنه حجة أو دليل على شيء ففيه تناقض بين، لكن إذا استند إلى دليل صار ذلك الدليل