باب
القول في محرمات العقل قطعاً للدنيا
هذه المحرمات أربعة: الجهل، والظلم، والعبث، والسفه.
أما الجهل: فإنه يكون بترك الاستدلال بنور عقله والعاقل ما ركب فيه العقل إلا ليقف به على مصالح غائبة لا تنال إلا بالحواس، وبه غلب ما في البر والبحر وسخرها، وادعى لنفسه كل شيء منها، فمتى لم يستدل بنور عقله لم ينل شيئاً مما تمنى لنفسه من هذه المطالب فيحرم عليه بالعقل ما تفوت به أغراض العقلاء كما يحرم به ترك الأكل الذي فيه حياته، وكما يحرم بالعقل ترك النظر بالعين عند إرادة المشي إلى الموضع احتاج إليه أو إطفاء السراج ليلاً مع إرادته السلوك في مضائق لا يهتدى فيها إلا بسراج.
ولما حرم الجهل قطعاً حرم الظلم من طريق الأولى، لأن الظلم تفسيره: وضع الشيء في غير موضعه فيصير فعله فعل جاهل بعد المعرفة، فيكون الظلم مكابرة لما رأى بنور عقله.
والأول تركاً للرؤية كالذي لم يفتح عينيه حتى وقع في بئر فيقبح منه ذلك.
والذي فتح فرأى البئر ثم أوقع نفسه فيها قصداً كان الفعل منه أقبح.
ومثاله في باب الشرع: من بلغته الدعوة والمعجزة فلم يتأمل وكفر كان قبيحاً.
والذي تأمل وعرف ورد تعنتاً كان أقبح نحو كفر إبليس وفرعون عليهم اللعائن حيث جحدوا واستيقنت أنفسهم ظلماً.
أما العبث: فحرام عقلاً لأنه اسم لفعل يخلو عن الفائدة لأن نفس الفعل وإن قل ففيه أدنى مشقة، فلا يتحمل عقلاً إلا لفائدة أولى منها.
والسفه: اسم لما يوجب مضرة فكان أقبح من الأول لوجود معنى الأول فيه من فوت الفائدة وزيادة من ضرر، فكان السفه من العبث كالظلم من الجهل ففي الجهل، والعبث حرمان الفائدة، وفي الظلم والسفه قبح العاقبة، والله أعلم.