وأيضاً: فإن قول الصحابي لا يخلو إما أن يكون توقيفاً أو اجتهاداً، فإن كان توقيفاً وجب اتباعه.
وإن كان اجتهاداً فاجتهاده أولى من اجتهاد غيره؛ لأنه شاهد الرسول وسمع كلامه، والسامع أعرف بالمقاصد ومعاني الكلام.
ولأنه منصوص عليه بقوله: (عليكم بسنتي) .
وإذا كان كذلك كان أولى من غيره كخبر الواحد مع القياس.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون توقيفاً؛ إذ لو كان توقيفاً لكان يظهر على ممر الأيام واختلاف الأحوال، ولكان لا يدعه من أن ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ويرويه عنه، ولكان يجب علينا اتباعه على أنه توقيف؛ لأنه إذا لم يخبر به عنه، ولم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب علينا فرضُه.
وأما الاجتهاد فلا يوجب اتباعه؛ لأجل أن مشاهدةَ الرسول وسماعَه لا يوجب عصمته من الخطأ في الاجتهاد، وإنما يحصل حسنُ الظن وكونُه أقربَ إلى الصواب، وذلك لا يوجب اتباعه، كالعالم لا يجوز له اتباع من هو أعلم منه، وإن كان اجتهاد الأعلم أقربَ إلى الصواب.
ولأن هذا يقتضي أن يكون قول الصحابي إذا طالت صحبته أولى من غيره، وكبارُ الصحابة أولى من صغارهم.
ولأن هذا يصح إذا علم أنه قاس على ما سمعه واضطر إلى قصده، فإنه ليس كل سامع للكلام يجب أن يضطر إلى قصد المتكلم، وإنما هو على حسب قيام دلالة الحال.
قيل: أما قولكم: إنه لو كان توقيفاً لظهر ونقل، فلا يصح لوجهين:
أحدهما: أنه لا يلزم الصحابي الروايةُ، بل هو مخير في ذكرها وتركها، وإنما يتعين عليه الفتيا، فهو كالمفتي مخير بين أن يذكر الدليل أو يذكر الحكم.