وَأَيْضًا هُوَ أَنه لَا خلاف أَنه يجوز أَن يَقُول صَاحب الشَّرْع حرمت عَلَيْكُم الْخمر لِأَنَّهُ شراب فِيهِ شدَّة مطربة فقيسوا عَلَيْهِ كل مَا كَانَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنى فَكَذَلِك يجوز أَن يحرم الْخمر لهَذِهِ الْعلَّة وَينصب عَلَيْهَا دلَالَة ويأمرنا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا
يدل عَلَيْهِ أَنه لما جَازَ أَن يَأْمُرنَا بالتوجه إِلَى الْجِهَة الَّتِي فِيهَا الْكَعْبَة لمن عاينها لِأَن فِيهَا الْكَعْبَة جَازَ أَن ينصب عَلَيْهَا دلَالَة لمن غَابَ عَنْهَا ويتعبد بالتوجه إِلَيْهَا بالاستدلال عَلَيْهَا
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو جَازَ التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الْفُرُوع لجَاز التَّعَبُّد بِهِ فِي الْأُصُول حَتَّى يعرف جَمِيع الْأَحْكَام بِالْقِيَاسِ
قُلْنَا يجوز التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ فِي الْأُصُول إِذا كَانَ هُنَاكَ أصل يسْتَدلّ بِهِ عَلَيْهِ فَأَما إِذا لم يكن هُنَاكَ أصل آخر فَلَا يجوز لِأَنَّهُ تعبد بِمَا لم يَجْعَل إِلَى مَعْرفَته طَرِيقا وَلم ينصب عَلَيْهِ دَلِيلا وَهَذَا كَمَا تَقول فِي الْبَصِير أَنه يجوز أَن يتعبد بِالِاجْتِهَادِ فِي طلب الْقبْلَة حَيْثُ جعل لَهُ إِلَى مَعْرفَتهَا طَرِيق وَلَا يجوز أَن يتعبد بِهِ الْأَعْمَى حَيْثُ لم يَجْعَل لَهُ ذَلِك طَرِيق كَذَلِك هَاهُنَا
قَالُوا وَلِأَن التَّكْلِيف إِنَّمَا جعل لمصْلحَة الْمُكَلف والمصالح لَا تعلم إِلَّا بِالنَّصِّ فَأَما الْقيَاس فَلَا تعلم لِأَن الْقيَاس رُبمَا أَخطَأ الْمصلحَة
قُلْنَا الْمصَالح لَا تعرف بِالْقِيَاسِ وَلَكِن مَا عرف بِالْقِيَاسِ فَهُوَ مَعْلُوم بِالنَّصِّ لِأَن النَّص هُوَ الَّذِي دلّ على الْقيَاس فَمَا أدّى إِلَيْهِ مَأْخُوذ من النَّص وَإِن كَانَ قد يتَوَصَّل إِلَى ذَلِك بِضَرْب من الِاسْتِدْلَال
على أَنه لَو كَانَ هَذَا دَلِيلا على منع التَّعَبُّد بِالْقِيَاسِ لوَجَبَ أَن يَجْعَل ذَلِك دَلِيلا على إبِْطَال التَّعَبُّد بِالِاجْتِهَادِ فِي الظَّوَاهِر وترتيب الْأَدِلَّة بَعْضهَا على بعض ولوجب أَن يبطل أَيْضا الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة فَيُقَال إِن طَرِيق التَّكْلِيف الْمصلحَة وَرُبمَا أَخطَأ الْمصلحَة فِي هَذَا كُله فَيجب أَن لَا يجوز الِاجْتِهَاد وَلما جَازَ ذَلِك بِالْإِجْمَاع دلّ على بطلَان مَا قَالُوهُ
قَالُوا لَو كَانَ فِي الشَّرْع عِلّة تَقْتَضِي الحكم لتَعلق الحكم بِمَا قبل الشَّرْع