توهم المواطأة وَمثل هَذَا كلما ازْدَادَ الْمَرْء التَّأَمُّل فِيهِ ازْدَادَ يَقِينا فالتشكيك فِيهِ يكون دَلِيل نُقْصَان الْعقل بِمَنْزِلَة التشكيك فِي حقائق الْأَشْيَاء المحسوسة والطمأنينة الَّتِي تكون بِاعْتِبَار كَمَال الْعقل تكون عبارَة عَن معرفَة الشَّيْء حَقِيقَة لَا محَالة
وَبِهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد قَوْلهم إِنَّه لَيْسَ فِي الْجَمَاعَة إِلَّا اجْتِمَاع الْأَفْرَاد لِأَن مثل هَذِه الطُّمَأْنِينَة لَا تثبت بِخَبَر الْفَرد وتوهم الْكَذِب فِي ذَلِك الْخَبَر غير خَارج عَن حد الْمُعْتَاد
ثمَّ هَذَا بَاطِل فَإِن الْوَاحِد منا يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بحروف الهجاء كلهَا وَهل لقَائِل أَن يَقُول لقدرته على ذَلِك يتَوَهَّم مِنْهُ أَن يَأْتِي بِمثل الْقُرْآن فَفِيهِ تِلْكَ الْحُرُوف بِعَينهَا وَكَذَلِكَ الغبي منا يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بِكُل حِكْمَة من شعر امرىء الْقَيْس وَغَيره ثمَّ لَا يَقُول أحد إِنَّه لقدرته على ذَلِك يقدر على (إنْشَاء) قصيدة مثل تِلْكَ القصيدة وَقد يتَكَلَّم الْإِنْسَان عَن ظن وفراسة فَيُصِيب مرّة ثمَّ لَا يَقُول أحد إِنَّه يُصِيب فِي كل مَا يتَكَلَّم (بِهِ) بِهَذَا الطَّرِيق اعْتِبَارا للجملة بالفرد واتفاق مثل هَذَا الْجمع على الصدْق كَانَ بِجَامِع جمعهم عَلَيْهِ وَهُوَ دُعَاء الدّين والمروءة على الصدْق وَإِنَّمَا تَدعِي انْقِطَاع توهم اتِّفَاقهم مَعَ اخْتِلَاف الطبائع والأهواء من غير جَامع يجمعهُمْ على ذَلِك فَأَما عِنْد وجود الْجَامِع فَهُوَ مُوَافق للمعتاد
فَإِن قيل لَو تَوَاتر الْخَبَر عِنْد القَاضِي بِأَن الَّذِي فِي يَد زيد ملك عَمْرو لم يقْض لَهُ بِالْملكِ بِدُونِ إِقَامَة الْبَيِّنَة وَلَو ثَبت لَهُ علم الْيَقِين بذلك لتمكن من الْقَضَاء بِهِ
قُلْنَا هَذَا أَولا يلْزم الْخصم فَإِنَّهُ يثبت علم طمأنينة الْقلب بِخَبَر التَّوَاتُر وَبِه يتَمَكَّن من الْقَضَاء لِأَن بِشَهَادَة الشَّاهِدين لَا يثبت فَوق ذَلِك
فَأَما عندنَا فَيحْتَمل أَن يُقَال بِأَنَّهُ يقْضِي لِأَنَّهُ مَأْمُور شرعا بِأَن يقْضِي بِالْعلمِ وَيحْتَمل أَن لَا يقْضِي بِمَنْزِلَة مَا لَو صَار مَعْلُوما لَهُ بمعاينة السَّبَب قبل أَن يُقَلّد الْقَضَاء فِيمَا ثَبت مَعَ الشُّبُهَات وَفِيمَا يندرىء بِالشُّبُهَاتِ من الْحُدُود الَّتِي هِيَ لله تَعَالَى وَإِن صَار مَعْلُوما لَهُ بَعْدَمَا قلد الْقَضَاء لم يقْض بِهِ مَا لم تشهد