فَلم يبْق احْتِمَال النّسخ وَصَارَ الْبَقَاء ثَابتا بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ وَهُوَ أَن النّسخ لَا يكون إِلَّا على لِسَان من ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَلَا توهم لذَلِك بَعْدَمَا قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِن قيل فعلى هَذَا لَا يكون النّسخ فِي أصل الْأَمر لِأَن الحكم الثَّابِت بِالْأَمر غير الْأَمر فببيان مدَّته لَا يثبت تَبْدِيل الْأَمر بِالنَّهْي
قُلْنَا وَهَكَذَا نقُول فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي النّسخ تعرض لِلْأَمْرِ بِوَجْه من الْوُجُوه بل للْحكم الثَّابِت بِهِ ظَاهرا بِنَاء على مَا هُوَ مَعْلُوم لنا فَإِنَّهُ كَانَ يجوز الْبَقَاء بعد هَذِه الْمدَّة بِاعْتِبَار الْإِطْلَاق الَّذِي كَانَ عندنَا
فَأَما فِي حق الشَّارِع فَهُوَ بَيَان مُدَّة الحكم كَمَا كَانَ مَعْلُوما لَهُ حَقِيقَة وَلَا يتَحَقَّق مِنْهُ توهم التَّعَرُّض لِلْأَمْرِ وَلَا لحكمه كالإماتة بعد الْإِحْيَاء فَإِنَّهُ بَيَان الْمدَّة من غير أَن يكون فِيهِ تعرض لأصل الْإِحْيَاء وَلَا لما يبتنى عَلَيْهِ من مُدَّة الْبَقَاء فاعتبار مَا هُوَ ظَاهر لنا يكون فِيهِ تَبْدِيل صفة الْحَيَاة بِصفة الْوَفَاة وَإِنَّمَا تتَحَقَّق الْمُنَافَاة بَين الْقبْح وَالْحسن فِي مَحل وَاحِد فِي وَقت وَاحِد فَأَما فِي وَقْتَيْنِ ومحلين فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك أَلا ترى أَنه لَا يتَوَجَّه الْخطاب على من لَا يعقل من صبي أَو مَجْنُون ثمَّ يتَوَجَّه عَلَيْهِ الْخطاب بَعْدَمَا عقل وَيكون كل وَاحِد مِنْهُمَا حسنا لاخْتِلَاف الْوَقْت أَو لاخْتِلَاف الْمحل
وَهَذَا لِأَن أحوالنا تتبدل فَيكون النّسخ تبديلا بِنَاء على مَا يتبدل من أحوالنا من الْعلم مُدَّة الْبَقَاء وَالْجهل بِهِ لَا يكون مُؤديا إِلَى الْجمع بَين صفة الْقبْح وَالْحسن وَالله يتعالى عَن ذَلِك فَكَانَ فِي حَقه بَيَانا مَحْضا لمُدَّة بَقَاء الْمَشْرُوع بِمَنْزِلَة الْمَنْصُوص عَلَيْهِ حِين شَرعه
وَمَا استدلوا بِهِ من السّمع لَا يكَاد يَصح عندنَا بَعْدَمَا ثَبت رِسَالَة رسل بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِالْآيَاتِ المعجزة والدلائل القاطعة
ودعواهم أَن ذَلِك فِي التَّوْرَاة غير مسموعة مِنْهُم لِأَنَّهُ ثَبت عندنَا على لِسَان من ثبتَتْ رسَالَته أَنهم حرفوا التَّوْرَاة وَزَادُوا فِيهَا ونقصوا وَلِأَن كَلَام الله تَعَالَى لَا يثبت إِلَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي التَّوْرَاة بَعْدَمَا فعل بخْتنصر ببني إِسْرَائِيل مَا فعل من الْقَتْل الذريع وإحراق أسفار التَّوْرَاة
وَفِي الْمَسْأَلَة كَلَام كثير بَين أهل الْأُصُول وَلَكنَّا اقتصرنا هُنَا على قدر مَا يتَّصل بأصول الْفِقْه وَالْمَقْصُود من بَيَان هَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من أصُول الْفِقْه وَالله الْمُوفق للإتمام