مَشْرُوعا وَيجوز أَن لَا يكون فَكَانَ النّسخ فِيهِ بَيَانا لمُدَّة بَقَاء الحكم وَذَلِكَ جَائِز بِاعْتِبَار مَا بَينا من الْمَعْنيين أَحدهمَا أَن معنى الِابْتِلَاء وَالْمَنْفَعَة للعباد فِي شَيْء يخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات وَاخْتِلَاف النَّاس فِي أَحْوَالهم
وَالثَّانِي أَن دَلِيل الْإِيجَاب غير مُوجب للبقاء بِمَنْزِلَة البيع يُوجب الْملك فِي الْمَبِيع للْمُشْتَرِي وَلَا يُوجب بَقَاء الْملك بل بَقَاؤُهُ بِدَلِيل آخر مبق أَو بِعَدَمِ دَلِيل المزيل وَهُوَ مُوجب الثّمن فِي ذمَّة المُشْتَرِي وَلَا يُوجب بَقَاء الثّمن فِي ذمَّته لَا محَالة وَلَا يكون فِي النّسخ تعرضا لِلْأَمْرِ وَلَا للْحكم الَّذِي هُوَ مُوجبه وَامْتِنَاع جَوَاز النّسخ فِيمَا تقدم من الْأَقْسَام كَانَ لِاجْتِمَاع معنى الْقبْح وَالْحسن وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي وَقت وَاحِد لَا فِي وَقْتَيْنِ حَتَّى إِن مَا يكون حسنا لعَينه لَا يجوز أَن يكون قبيحا لعَينه بِوَجْه من الْوُجُوه
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن الْخَلِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِذبح وَلَده وَكَانَ الْأَمر دَلِيلا على حسن ذبحه ثمَّ انتسخ ذَلِك فَكَانَ مَنْهِيّا عَن ذبحه مَعَ قيام الْأَمر حَتَّى وَجب ذبح الشَّاة فدَاء عَنهُ وَلَا شكّ أَن النَّهْي عَن ذبح الْوَلَد الَّذِي بِهِ يثبت الانتساخ كَانَ دَلِيلا على قبحه وَقد قُلْتُمْ باجتماعهما فِي وَقت وَاحِد
قُلْنَا لَا كَذَلِك فَإنَّا لَا نقُول بِأَنَّهُ انتسخ الحكم الَّذِي كَانَ ثَابتا بِالْأَمر وَكَيف يُقَال بِهِ وَقد سَمَّاهُ الله محققا رُؤْيَاهُ بقوله تَعَالَى {وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم قد صدقت الرُّؤْيَا} أَي حققت مَا أمرت بِهِ
وَبعد النّسخ لَا يكون هُوَ محققا مَا أَمر بِهِ وَلَكنَّا نقُول الشَّاة كَانَت فدَاء كَمَا نَص الله عَلَيْهِ فِي قَوْله {وفديناه بِذبح عَظِيم} على معنى أَنه يقدم على الْوَلَد فِي قبُول حكم الْوُجُوب بعد أَن كَانَ الْإِيجَاب بِالْأَمر مُضَافا إِلَى الْوَلَد حَقِيقَة كمن يَرْمِي سَهْما إِلَى غَيره فيفديه آخر بِنَفسِهِ بِأَن يتَقَدَّم عَلَيْهِ حَتَّى ينفذ فِيهِ بعد أَن يكون خُرُوج السهْم من الرَّامِي إِلَى الْمحل الَّذِي قَصده وَإِذا كَانَ فدَاء من هَذَا الْوَجْه كَانَ هُوَ ممتثلا للْحكم الثَّابِت بِالْأَمر فَلَا يَسْتَقِيم القَوْل بالنسخ فِيهِ لِأَن ذَلِك يبتنى على النَّهْي الَّذِي هُوَ ضد الْأَمر فَلَا يتَصَوَّر اجْتِمَاعهمَا فِي وَقت وَاحِد
فَإِن قيل فإيش الْحِكْمَة فِي إِضَافَة الْإِيجَاب إِلَى الْوَلَد إِذا لم يجب بِهِ ذبح الْوَلَد قُلْنَا فِيهِ تَحْقِيق معنى الِابْتِلَاء فِي حق الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يظْهر مِنْهُ الانقياد والاستسلام وَالصَّبْر على مَا بِهِ من حرقة الْقلب على وَلَده وَفِي حق الْوَلَد بِالصبرِ والمجاهدة على معرة الذّبْح إِلَى حَال المكاشفة
لرب الْعَالمين وللولد بِأَن يكون قربانا لله وَإِلَيْهِ أَشَارَ الله تَعَالَى فِي قَوْله {فَلَمَّا أسلما} ثمَّ اسْتَقر حكم الْوُجُوب فِي الشَّاة بطرِيق الْفِدَاء وَفِيه إِظْهَار معنى الْكَرَامَة والفضيلة