يتَبَيَّن بِهِ انتساخه
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَا خلاف بَيْننَا وَبَين الْخصم على جَوَاز نسخ التِّلَاوَة دون الحكم وَنسخ تِلَاوَة الْكتاب إِنَّمَا يكون بِغَيْر الْكتاب إِمَّا بِأَن يرفع حفظه من الْقُلُوب أَو لَا يبْقى أحد مِمَّن كَانَ يحفظه نَحْو صحف إِبْرَاهِيم وَمن تقدمه من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهَذَا نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ فِي صلَاته سُورَة الْمُؤمنِينَ فأسقط مِنْهَا آيَة ثمَّ قَالَ بعد الْفَرَاغ ألم يكن فِيكُم أبي فَقَالَ نعم يَا رَسُول الله
فَقَالَ هلا ذكرتنيها فَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا نسخت
فَقَالَ لَو نسخت لأنبأتكم بهَا فقد اعْتقد نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا ثَبت جَوَاز نسخ التِّلَاوَة بِغَيْر الْكتاب فَكَذَلِك جَوَاز نسخ الحكم لِأَن وجوب التِّلَاوَة وَالْعَمَل بِحكمِهِ كل وَاحِد مِنْهُمَا حكم ثَابت بِالْكتاب
وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ الحكم الثَّابِت بِالْكتاب بِغَيْرِهِ أَن قَوْله تَعَالَى {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} قد انتسخ بِاتِّفَاق الصَّحَابَة على مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا مَا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الدُّنْيَا حَتَّى أُبِيح لَهُ النِّسَاء
وناسخ هَذَا لَا يُتْلَى فِي الْكتاب فَعرفنَا أَنهم اعتقدوا جَوَاز نسخ الْكتاب بِغَيْر الْكتاب
فَأَما قَوْله تَعَالَى {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} فَهُوَ يخرج على مَا ذكرنَا من التَّقْرِير فَإِن كل وَاحِد من الْحكمَيْنِ ثَابت بطرِيق الْوَحْي وشارعه علام الغيوب وَإِن كَانَت الْعبارَة فِي أَحدهمَا من حَيْثُ الظَّاهِر لرَسُول الله فيستقيم إِطْلَاق القَوْل بِأَن الحكم الثَّانِي مثل الأول أَو خير مِنْهُ على معنى زِيَادَة الثَّوَاب والدرجة فِيهِ أَو كَونه أيسر على الْعباد أَو أجمع لمصالحهم عَاجلا وآجلا إِلَّا أَن الْوَحْي المتلو نظمه معجز وَالَّذِي هُوَ غير متلو نظمه لَيْسَ بمعجز لِأَنَّهُ عبارَة مَخْلُوق وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن كَانَ أفْصح الْعَرَب فَكَلَامه لَيْسَ بمعجز أَلا ترى أَنه مَا تحدى النَّاس إِلَى الْإِتْيَان بِمثل كَلَامه كَمَا تحداهم إِلَى الأتيان بِمثل سُورَة من الْقُرْآن
وَلَكِن حكم النّسخ لَا يخْتَص بالمعجز أَلا ترى أَن النّسخ يثبت بِمَا دون الْآيَة وبآية وَاحِدَة واتفاق الْعلمَاء على صفة الإعجاز فِي سُورَة وَإِن تكلمُوا فِيمَا دون