وَالِاجْتِهَاد فَإِنَّمَا يكون من رَسُول الله بِهَذَا الطَّرِيق فَهُوَ بِمَنْزِلَة الثَّابِت بِالْوَحْي لقِيَام الدَّلِيل على أَنه يكون ثَوابًا لَا محَالة فَإِنَّهُ كَانَ لَا يقر على الْخَطَأ فَكَانَ ذَلِك مِنْهُ حجَّة قَاطِعَة وَمثل هَذَا من الْأمة لَا يَجْعَل بِمَنْزِلَة الْوَحْي لِأَن الْمُجْتَهد يخطىء ويصيب فقد علم أَنه كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صفة الْكَمَال مَا لَا يُحِيط بِهِ إِلَّا الله فَلَا شكّ أَن غَيره لَا يُسَاوِيه فِي إِعْمَال الرَّأْي وَالِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام
وَهَذَا يبتنى على اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَنه عَلَيْهِ السَّلَام هَل كَانَ يجْتَهد فِي الْأَحْكَام وَيعْمل بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ فَأبى ذَلِك بعض الْعلمَاء وَقَالَ هَذَا الطَّرِيق حَظّ الْأمة فَأَما حَظّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْعَمَل بِالْوَحْي من الْوُجُوه الَّتِي ذكرنَا
وَقَالَ بَعضهم قد كَانَ يعْمل بطرِيق الْوَحْي تَارَة وبالرأي تَارَة وَبِكُل وَاحِد من الطَّرِيقَيْنِ كَانَ يبين الْأَحْكَام
وَأَصَح الْأَقَاوِيل عندنَا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا كَانَ يبتلى بِهِ من الْحَوَادِث الَّتِي لَيْسَ فِيهَا وَحي منزل كَانَ ينْتَظر الْوَحْي إِلَى أَن تمْضِي مُدَّة الِانْتِظَار ثمَّ كَانَ يعْمل بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد وَيبين الحكم بِهِ فَإِذا أقرّ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِك حجَّة قَاطِعَة للْحكم
فَأَما الْفَرِيق الأول فاحتجوا بقوله تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} وَقَالَ تَعَالَى {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ} وَلِأَنَّهُ لَا خلاف أَنه كَانَ لَا يجوز لأحد مُخَالفَة رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا بَينه من أَحْكَام الشَّرْع والرأي قد يَقع فِيهِ الْغَلَط فِي حَقه وَفِي حق غَيره فَلَو كَانَ يبين الحكم بِالرَّأْيِ لَكَانَ يجوز مُخَالفَته فِي ذَلِك كَمَا فِي أَمر الْحَرْب فقد ظهر أَنهم خالفوه فِي ذَلِك غير مرّة واستصوبهم فِي ذَلِك أَلا ترى أَنه لما أَرَادَ النُّزُول يَوْم بدر دون المَاء قَالَ لَهُ الْخَبَّاب بن الْمُنْذر رَضِي الله عَنهُ إِن كَانَ عَن وَحي فسمعا وَطَاعَة وَإِن كَانَ عَن رَأْي فَإِنِّي أرى الصَّوَاب أَن ننزل على المَاء ونتخذ الْحِيَاض فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَأْيهِ وَنزل على المَاء
وَلما أَرَادَ يَوْم الْأَحْزَاب أَن يُعْطي الْمُشْركين شطر ثمار الْمَدِينَة لينصرفوا قَامَ سعد بن معَاذ وَسعد بن عبَادَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَقَالا إِن كَانَ هَذَا عَن وَحي فسمعا وَطَاعَة وَإِن كَانَ عَن رَأْي فَلَا نعطيهم إِلَّا السَّيْف قد كُنَّا نَحن وهم فِي الْجَاهِلِيَّة لم يكن لنا وَلَا لَهُم دين فَكَانُوا لَا يطمعون