وَمَا وضعُوا هَذِه الْعبارَات إِلَّا للتمييز بَين الأدوات الناصبة
وَأهل الْعرُوض يَقُولُونَ هَذَا من الْبَحْر الطَّوِيل وَهَذَا من الْبَحْر المتقارب وَهَذَا من الْبَحْر المديد فَكَذَلِك اسْتِعْمَال عُلَمَائِنَا عبارَة الْقيَاس وَالِاسْتِحْسَان للتمييز بَين الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين وَتَخْصِيص أَحدهمَا بالاستحسان لكَون الْعَمَل بِهِ مستحسنا ولكونه مائلا عَن سنَن الْقيَاس الظَّاهِر فَكَانَ هَذَا الِاسْم مستعارا لوُجُود معنى الِاسْم فِيهِ بِمَنْزِلَة الصَّلَاة فَإِنَّهَا اسْم للدُّعَاء ثمَّ أطلقت على الْعِبَادَة الْمُشْتَملَة على الْأَركان من الْأَفْعَال والأقوال لما فِيهَا من الدُّعَاء عَادَة
ثمَّ اسْتِحْسَان الْعَمَل بأقوى الدَّلِيلَيْنِ لَا يكون من اتِّبَاع الْهوى وشهوة النَّفس فِي شَيْء
وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي نَظَائِر هَذَا أستحب ذَلِك
وَأي فرق بَين من يَقُول أستحسن كَذَا وَبَين من يَقُول أستحبه بل الِاسْتِحْسَان أفْصح اللغتين وَأقرب إِلَى مُوَافقَة عبارَة الشَّرْع فِي هَذَا المُرَاد
وَظن بعض الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَابنَا أَن الْعَمَل بالاستحسان أولى مَعَ جَوَاز الْعَمَل بِالْقِيَاسِ فِي مَوضِع الِاسْتِحْسَان وَشبه ذَلِك بالطرد مَعَ الْمُؤثر فَإِن الْعَمَل بالمؤثر أولى وَإِن كَانَ الْعَمَل بالطرد جَائِزا
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا وهم عِنْدِي فَإِن اللَّفْظ الْمَذْكُور فِي الْكتب فِي أَكثر الْمسَائِل إِلَّا أَنا تركنَا هَذَا الْقيَاس والمتروك لَا يجوز الْعَمَل بِهِ وَتارَة يَقُول إِلَّا أَنِّي أستقبح ذَلِك وَمَا يجوز الْعَمَل بِهِ من الدَّلِيل شرعا فاستقباحه يكون كفرا فَعرفنَا أَن الصَّحِيح ترك الْقيَاس أصلا فِي الْموضع الَّذِي نَأْخُذ بالاستحسان وَبِه يتَبَيَّن أَن الْعَمَل بالاستحسان لَا يكون مَعَ قيام الْمُعَارضَة وَلَكِن بِاعْتِبَار سُقُوط الأضعف بالأقوى أصلا
وَقد قَالَ فِي كتاب السّرقَة إِذا دخل جمَاعَة الْبَيْت وجمعوا الْمَتَاع فَحَمَلُوهُ على ظهر أحدهم فَأخْرجهُ وَخَرجُوا مَعَه فِي الْقيَاس الْقطع على الْحمال خَاصَّة وَفِي الِاسْتِحْسَان يقطعون جَمِيعًا
وَقَالَ فِي كتاب الْحُدُود إِذا اخْتلف شُهُود الزِّنَا فِي والزاويتين فِي بَيت وَاحِد فِي الْقيَاس لَا يحد الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَفِي الِاسْتِحْسَان يُقَام الْحَد
وَمَعْلُوم أَن الْحَد يسْقط بِالشُّبْهَةِ وَأدنى دَرَجَات الْمعَارض ايراث الشُّبْهَة فَكيف يستحسن إِقَامَة الْحَد فِي مَوضِع الشُّبْهَة
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله