قُلْنَا: هَذَا وَأَمْثَالُهُ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْعِصْيَانِ وَالْكَذِبِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى مُتَمَسِّكٌ بِالْحَقِّ، وَلَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَحَتَّى يَظْهَرَ الدَّجَّالُ» كَيْفَ وَلَا تَجْرِي هَذِهِ الْأَخْبَارُ فِي الصِّحَّةِ وَالظُّهُورِ مَجْرَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَمَسَّكْنَا بِهَا؟
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ التَّمَسُّكُ بِالطَّرِيقِ الْمَعْنَوِيِّ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الصَّحَابَةُ إذَا قَضَوْا بِقَضِيَّةٍ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَاطِعُونَ بِهَا فَلَا يَقْطَعُونَ بِهَا إلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ قَاطِعٍ، وَإِذَا كَثُرُوا كَثْرَةً تَنْتَهِي إلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ فَالْعَادَةُ تُحِيلُ عَلَيْهِمْ قَصْدَ الْكَذِبِ وَتُحِيلُ عَلَيْهِمْ الْغَلَطَ حَتَّى لَا يَتَنَبَّهَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِلْمُحِقِّ فِي ذَلِكَ وَإِلَى أَنَّ الْقَطْعَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ خَطَأٌ، فَقَطْعُهُمْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ مُحَالٌ فِي الْعَادَةِ.
فَإِنْ قَضَوْا عَنْ اجْتِهَادٍ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَيُعْلَمُ أَنَّ التَّابِعِينَ كَانُوا يُشَدِّدُونَ النَّكِيرَ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ وَيَقْطَعُونَ بِهِ، وَقَطْعُهُمْ بِذَلِكَ قَطْعٌ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْقَطْعِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا إلَّا عَنْ قَاطِعٍ، وَإِلَّا فَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَشِذَّ عَنْ جَمِيعِهِمْ الْحَقُّ مَعَ كَثْرَتِهِمْ حَتَّى لَا يَتَنَبَّهَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِلْحَقِّ.
وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ التَّابِعِينَ لَوْ أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ أَنْكَرَ تَابِعُو التَّابِعِينَ عَلَى الْمُخَالِفِ وَقَطَعُوا بِالْإِنْكَارِ، وَهُوَ قَطْعٌ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْقَطْعِ فَالْعَادَةُ تُحِيلُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ قَاطِعٍ وَعَلَى مَسَاقِ هَذَا قَالُوا لَوْ رَجَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إلَى عَدَدٍ يَنْقُصُ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ فَلَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِي الْعَادَةِ وَلَا تَعَمُّدُ الْكَذِبِ لِبَاعِثٍ عَلَيْهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ.
وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ ضَعِيفَةٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ مَنْشَأَ الْخَطَأِ إمَّا تَعَمُّدُ الْكَذِبِ وَإِمَّا ظَنُّهُمْ مَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ قَاطِعًا، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَجَائِز، فَقَدْ قَطَعَ الْيَهُودُ بِبُطْلَانِ نُبُوَّةِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ قَطْعٌ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْقَطْعِ لَكِنْ ظَنُّوا مَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ قَاطِعًا.
وَالْمُنْكِرُونَ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمُرْتَكِبُونَ لِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ عَدَدُهُمْ بَالِغٌ مَبْلَغَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ وَيَحْصُلُ الصِّدْقُ بِإِخْبَارِهِمْ، وَلَكِنْ أَخْطَئُوا بِالْقَطْعِ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْقَطْعِ. وَهَذَا الْقَائِلُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ إجْمَاعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى حُجَّةً وَلَا تَخْصِيصَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَانِ دَيْنِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِالْعَادَةِ، وَأَنْتُمْ فِي نُصْرَةِ الْمَسْلَكِ الثَّانِي اسْتَرْوَحْتُمْ إلَى الْعَادَةِ وَهَذَا عَيْنُ الْأَوَّلِ.
قُلْنَا: الْعَادَةُ لَا تُحِيلُ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ أَنْ يَظُنُّوا مَا بِقَاطِعٍ قَاطِعًا، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: شَرْطُ خَبَرِ التَّوَاتُرِ أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى مَحْسُوسٍ وَالْعَادَةُ تُحِيلُ الِانْقِيَادَ وَالسُّكُوتَ عَمَّنْ دَفَعَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ بِإِجْمَاعٍ دَلِيلُهُ خَبَرٌ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ وَكُلُّ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ يُعْلَمُ بِالْحِسِّ أَوْ بِقَرِينَةِ الْحَالِ أَوْ بِالْبَدِيهَةِ فَمِنْهَاجُهُ وَاحِدٌ وَيَتَّفِقُ النَّاسُ عَلَى دَرْكِهِ وَالْعَادَةُ الذُّهُولُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ التَّوَاتُرِ وَمَا هُوَ نَظَرِيٌّ فَطُرُقُهُ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَا يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَجْتَمِعَ أَهْلُ التَّوَاتُرِ عَلَى الْغَلَطِ فِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْلَكَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: اعْتِمَادُكُمْ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ الثَّانِي أَنَّ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَقٌّ وَلِيس بِخَطَأٍ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ وَكُلّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ وَلَا يَجِبُ عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ اتِّبَاعُهُ وَالشَّاهِدُ الْمُزَوِّرُ مُبْطِلٌ وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي اتِّبَاعُهُ؟ فَوُجُوبُ الِاتِّبَاعِ شَيْءٌ وَكَوْنُ الشَّيْءِ حَقًّا غَيْرُهُ.
قُلْنَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّهُ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَبِحَسْبِ كَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ فِي قَوْلِهِمْ يَجِبُ اتِّبَاعُ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ نَقُولُ كُلُّ حَقٍّ عُلِمَ كَوْنُهُ حَقًّا فَالْأَصْلُ فِيهِ وُجُوبُ