وَلَا يُعَاقَبُ فَأَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا الضَّرْبُ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالدَّوَاءُ سَبَبُ الشِّفَاءِ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ شَخْصٍ أَوْ فِي مُعَيَّنٍ مُشَارٍ إلَيْهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَ فِي الْمَحَلِّ أَمْرٌ يَدْفَعُ السَّبَبَ وَلَا يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ السَّبَبِيَّةِ، فَرُبَّ دَوَاءٍ لَا يَنْفَعُ وَرُبَّ ضَرْبٍ لَا يُدْرِكُ الْمَضْرُوبَ أَلَمُهُ لِكَوْنِهِ مَشْغُولَ النَّفْسِ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَمَنْ يُجْرَحُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَهُوَ لَا يُحِسُّ فِي الْحَالِ بِهِ، وَكَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَسْتَحِكُمْ فَتَدْفَعُ أَثَرَ الدَّوَاءِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي سَرِيرَةِ الشَّخْصِ وَبَاطِنِهِ أَخْلَاقٌ رَضِيَّةٌ وَخِصَالٌ مَحْمُودَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَرْضِيَّةٌ تُوجِبُ الْعَفْوَ عَنْ جَرِيمَتِهِ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ خُرُوجَ الْجَرِيمَةِ عَنْ كَوْنِهَا سَبَبَ الْعِقَابِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ حَدَّانِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلْفًا إذْ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الْأَسَامِي الْمَوْضُوعَةِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا الرَّسْمِيُّ فَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكْثُرَ لِأَنَّ عَوَارِضَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَلَوَازِمِهِ قَدْ تَكْثُرُ. وَأَمَّا الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ إلَّا وَاحِدًا لِأَنَّ الذَّاتِيَّاتِ مَحْصُورَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا حَقِيقِيًّا، وَإِنْ ذَكَرَ مَعَ الذَّاتِيَّاتِ زِيَادَةً فَالزِّيَادَةُ حَشْوٌ. فَإِذًا هَذَا الْحَدُّ لَا يَتَعَدَّدُ وَإِنْ جَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْعِبَارَاتُ الْمُتَرَادِفَةُ، كَمَا يُقَالُ فِي حَدِّ الْحَادِثِ إنَّهُ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الْعَدَمِ أَوْ الْكَائِنُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ الْمَوْجُودُ الْمَسْبُوقُ بِعَدَمٍ أَوْ الْمَوْجُودُ عَنْ عَدَمٍ، فَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ لَا تُؤَدِّي إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا فَإِنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُتَرَادِفَةِ.
وَلْنَقْتَصِرْ فِي الِامْتِحَانَاتِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَالتَّنْبِيهُ حَاصِلٌ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الدِّعَامَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَدَارّكِ الْعُقُولِ
الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي السَّوَابِقِ
الدِّعَامَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَدَارّكِ الْعُقُولِ الدِّعَامَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَدَارّكِ الْعُقُولِ: فِي الْبُرْهَانِ الَّذِي بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى الْعُلُومِ التَّصْدِيقِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ
وَهَذِهِ الدِّعَامَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُنُونٍ: سَوَابِقُ، وَلَوَاحِقُ، وَمَقَاصِدُ.
الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي السَّوَابِقِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى تَمْهِيدٍ كُلِّيٍّ وَثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
التَّمْهِيدُ: اعْلَمْ أَنَّ الْبُرْهَانَ عِبَارَةٌ عَنْ أَقَاوِيلَ مَخْصُوصَةٍ أُلِّفَتْ تَأْلِيفًا مَخْصُوصًا بِشَرْطٍ مَخْصُوصٍ يَلْزَمُ مِنْهُ رَأْيٌ هُوَ مَطْلُوبُ النَّاظِرِ بِالنَّظَرِ، وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ إذَا وُضِعَتْ فِي الْبُرْهَانِ لِاقْتِبَاسِ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا سُمِّيَتْ مُقَدِّمَاتٍ.
وَالْخَلَلُ فِي الْبُرْهَانِ تَارَةً يَدْخُلُ فِي جِهَةِ نَفْسِ الْمُقَدِّمَاتِ إذْ قَدْ تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ شُرُوطِهَا، وَأُخْرَى مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّرْتِيبِ وَالنَّظْمِ وَإِنْ كَانَتْ الْمُقَدِّمَاتُ صَحِيحَةً يَقِينِيَّةً وَمَرَّةً مِنْهَا جَمِيعًا. وَمِثَالُهُ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ الْبَيْتُ، الْمَبْنِيُّ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُرَكَّبٌ تَارَةً يَخْتَلُّ بِسَبَبٍ فِي هَيْئَةِ التَّأْلِيفِ بِأَنْ تَكُونَ الْحِيطَانُ مُعْوَجَّةً وَالسَّقْفُ مُنْخَفِضًا إلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ الْأَرْضِ فَيَكُونُ فَاسِدًا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْأَحْجَارُ وَالْجُذُوعُ وَسَائِرُ الْآلَاتِ صَحِيحَةً، وَتَارَةً يَكُونُ الْبَيْتُ صَحِيحَ الصُّورَةِ فِي تَرْبِيعِهَا وَوَضْعِ حِيطَانِهَا وَسَقْفِهَا وَلَكِنْ يَكُونُ الْخَلَلُ مِنْ رَخَاوَةٍ فِي الْجُذُوعِ وَتَشَعُّبٍ فِي اللَّبِنَاتِ هَذَا حُكْمُ الْبُرْهَانِ وَالْحَدِّ وَكُلِّ أَمْرٍ مُرَكَّبٍ، فَإِنَّ الْخَلَلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي هَيْئَةِ تَرْكِيبِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ التَّرْكِيبُ، كَالثَّوْبِ فِي الْقَمِيصِ وَالْخَشَبِ فِي الْكُرْسِيِّ وَاللَّبِنِ فِي الْحَائِطِ وَالْجُذُوعِ فِي السَّقْفِ.
وَكَمَا أَنَّ مَنْ يُرِيدُ بِنَاءَ بَيْتٍ بَعِيدٍ عَنْ الْخَلَلِ يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَعُدَّ الْآلَاتِ الْمُفْرَدَةِ أَوَّلًا