الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ طَرْدٌ مَحْضٌ فَزِيَادَةُ الْعَكْسِ لَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّ الْعَكْسَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا أَثَرَ لِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ؛ وَلِأَنَّ زَوَالَهُ عِنْدَ زَوَالِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمُلَازَمَتِهِ لِلْعِلَّةِ كَالرَّائِحَةِ أَوْ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وَشَرْطًا مِنْ شُرُوطِهَا وَالْحُكْمُ يَنْفِي بَعْضَ شُرُوطِ الْعِلَّةِ وَبَعْضَ أَجْزَائِهَا فَإِذَا تَعَارَضَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَكُّمِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَنُسَلِّمُ أَنَّ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ فَهُوَ عِلَّةٌ، فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ أَنَّهُ زَالَ بِزَوَالِهِ؟ أَمَّا مَا ثَبَتَ مَعَ ثُبُوتِهِ وَزَالَ مَعَ زَوَالِهِ فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ عِلَّةً، كَالرَّائِحَةِ الْمَخْصُوصَةِ مَعَ الشِّدَّةِ.
أَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ سَبْرٌ وَتَقْسِيمٌ كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا الْحُكْمُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِحُدُوثِ حَادِثٍ وَلَا حَادِثَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ إلَّا كَذَا، وَكَذَا وَقَدْ بَطَلَ الْكُلُّ إلَّا هَذَا فَهُوَ الْعِلَّةُ، وَمِثْلُ هَذَا السَّبْرِ حُجَّةٌ فِي الطَّرْدِ الْمَحْضِ وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْعَكْسُ. وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا شَذَّ عَنْهُ وَصْفٌ آخَرُ هُوَ الْعِلَّةُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إلَّا سَبْرٌ بِحَسَبِ وُسْعِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِر غَيْرُ ذَلِكَ وَعَلَى مَنْ يَدَّعِي وَصْفًا آخَرَ إبْرَازُهُ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى إبْطَالِكُمْ التَّمَسُّكَ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَقَدْ رَأَيْتُمْ تَصْوِيبَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقَدْ غَلَبَ هَذَا عَلَى ظَنِّ قَوْمٍ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِهِ فَمُحَالٌ إذْ لَيْسَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إلَّا الْحُكْمُ بِالظَّنِّ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِمْ فَمُحَالٌ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ قَوْمٍ لَوْلَاهُ لَمَا حَكَمُوا بِهِ.
قُلْنَا: أَجَابَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ: نَعْنِي بِإِبْطَالِهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي حَقِّنَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّنَا، أَمَّا مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ.
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُصِيبٌ إذَا اسْتَوْفَى النَّظَرَ وَأَتَمَّهُ، وَأَمَّا إذَا قَضَى بِسَابِقِ الرَّأْيِ وَبَادِئِ الْوَهْمِ فَهُوَ مُخْطِئٌ، فَإِنْ سَبَرَ وَقَسَمَ فَقَدْ أَتَمَّ النَّظَرَ وَأَصَابَ.
أَمَّا حُكْمُهُ قَبْلَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ بِأَنَّ مَا اقْتَرَنَ بِشَيْءٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فِيهِ تَحَكُّمٌ وَوَهْمٌ، إذْ تَمَامُ دَلِيلِهِ أَنَّ مَا اقْتَرَنَ بِشَيْءٍ فَهُوَ عِلَّتُهُ وَهَذَا قَدْ اقْتَرَنَ بِهِ فَهُوَ إذًا عِلَّتُهُ، وَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى مَنْقُوضَةٌ بِالطَّمِّ وَالرَّمِّ فَإِذًا كَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ وَلَمْ يُتَمِّمْ النَّظَرَ وَلَمْ يَعْثُرْ عَلَى مُنَاسَبَةِ الْعِلَّةِ وَلَمْ يَتَوَصَّلْ إلَيْهِ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ.
وَمَنْ كَشَفَ هَذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ غَلَبَةُ ظَنٍّ بِالطَّرْدِ الْمُجَرَّدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا نَاقِصَ الرُّتْبَةِ عَنْ دَرَجَة الْمُجْتَهِدِينَ، وَمَنْ اجْتَهَدَ وَلَيْسَ أَهْلًا لَهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدِي الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ وَاسْتِدْلَالُ الْمُرْسَلِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الظَّنَّ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَيْسَ يَقُومُ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، مَنْ عَرَفَهُ مُحِقَ ظَنُّهُ بِخِلَافِ الطَّرْدِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ سَبْرٌ وَتَقْسِيمٌ.
هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَلْنَشْرَعْ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ.
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ وَفِيهِ أَطْرَاف
الطَّرَفِ الْأَوَّلِ فِي حَقِيقَة الشَّبَهِ وَأَمْثِلَتِهِ
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ
وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ بِثَلَاثَةِ أَطْرَافٍ
الطَّرَفِ الْأَوَّلِ: فِي حَقِيقَةِ الشَّبَهِ وَأَمْثِلَتِهِ وَتَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ فِيهِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهِ أَمَّا حَقِيقَتُهُ فَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الشَّبَهِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ قِيَاسٍ، فَإِنَّ الْفَرْعَ يُلْحَقُ بِالْأَصْلِ بِجَامِعٍ يُشْبِهُهُ فِيهِ فَهُوَ إذًا يُشْبِهُهُ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الطَّرْدِ؛ لِأَنَّ الِاطِّرَادَ شَرْطُ كُلِّ عِلَّةٍ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ.
وَمَعْنَى الطَّرْدِ السَّلَامَةُ عَنْ النَّقْضِ لَكِنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ إنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً أَوْ مُنَاسِبَةً عُرِفَتْ بِأَشْرَفِ صِفَاتهَا وَأَقْوَاهَا وَهُوَ التَّأْثِيرُ وَالْمُنَاسَبَةُ دُونَ الْأَخَسِّ الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ الِاطِّرَادُ وَالْمُشَابَهَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعِلَّةِ خَاصِّيَّةٌ إلَّا الِاطِّرَادَ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ أَوْصَافِ الْعِلَلِ وَأَضْعَفُهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّحَّةِ خُصَّ بِاسْمِ الطَّرْدِ لَا لِاخْتِصَاصِ الِاطِّرَادِ بِهَا لَكِنْ؛ لِأَنَّهُ لَا