فَيَكُونُ الْإِلْزَامُ وَالْإِيجَابُ حَاصِلًا وَلَكِنْ بِشَرْطِ الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: صُمْ غَدًا فَقَدْ أَوْجَبَ وَأَلْزَم فِي الْحَالِ صَوْمَ الْغَدِ، وَلَا يُمْكِنُ صَوْمُ الْغَد فِي الْوَقْتِ بَلْ فِي الْغَدِ وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مُلْزِمٌ وَمُوجِبٌ فِي الْحَالِ.
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْمَحْكُومُ فِيهِ: وَهُوَ الْفِعْلُ، إذْ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ إلَّا الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ. وَلِلدَّاخِلِ تَحْتَ التَّكْلِيفِ شُرُوطٌ
الْأَوَّلُ: صِحَّةُ حُدُوثِهِ لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْقَدِيمِ وَالْبَاقِي وَقَلْبِ الْأَجْنَاسِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَسَائِرِ الْمُحَالَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهَا عِنْدَ مَنْ يُحِيلُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، فَلَا أَمْرَ إلَّا بِمَعْدُومٍ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ.
وَهَلْ يَكُونُ الْحَادِثُ فِي أَوَّلِ حَالِ حُدُوثِهِ مَأْمُورًا بِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْحُدُوثِ أَوْ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَأْمُورًا كَمَا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْوُجُودِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ كَلَامِيٌّ لَا يَلِيقُ بِمَقَاصِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ ذِكْرُهُ
الثَّانِي: جَوَازُ كَوْنِهِ مُكْتَسِبًا لِلْعَبْدِ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ، إذْ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُ زَيْدٍ كِتَابَةَ عَمْرٍو وَخِيَاطَتَهُ وَإِنْ كَانَ حُدُوثُهُ مُمْكِنًا، فَلْيَكُنْ مَعَ كَوْنِهِ مُمْكِنًا مَقْدُورًا لِلْمُخَاطَبِ
الثَّالِثُ: كَوْنُهُ مَعْلُومًا لِلْمَأْمُورِ مَعْلُومَ التَّمْيِيزِ عَنْ غَيْرِهِ حَتَّى يُتَصَوَّر قَصْدُهُ إلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يُتَصَوَّرَ مِنْهُ قَصْدُ الِامْتِثَالِ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِمَا يَجِبُ فِيهِ قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالتَّقَرُّبِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْكَافِرُ مَأْمُورٌ بِالْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ. قُلْنَا: الشَّرْطُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أَوْ فِي حُكْمِ الْمَعْلُومِ، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مُمْكِنًا بِأَنْ تَكُونَ الْأَدِلَّةُ مَنْصُوبَةً وَالْعَقْلُ وَالتَّمَكُّنُ مِنْ النَّظَرِ حَاصِلًا، حَتَّى إنَّ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَوْ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِثْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ إرَادَةُ إيقَاعِهِ طَاعَةً وَهُوَ أَكْثَرُ الْعِبَادَاتِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا: الْوَاجِبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ النَّظَرُ الْمُعَرِّفُ لِلْوُجُوبِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَصْدُ إيقَاعِهِ طَاعَةً وَهُوَ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ إلَّا بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِهِ.
الثَّانِي: أَصْلُ إرَادَةِ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ، فَإِنَّهُ لَوْ افْتَقَرَتْ إلَى إرَادَةٍ لَافْتَقَرَتْ الْإِرَادَةُ إلَى إرَادَةٍ وَتَسَلْسُلٍ.
وَيَتَشَعَّبُ عَنْ شُرُوطِ الْفِعْلِ خَمْسُ مَسَائِلَ.
مَسْأَلَةٌ: ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ كَوْنَ الْمُكَلَّفِ بِهِ مُمْكِنَ الْحُدُوثِ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
بَلْ يَجُوزُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَالْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَقَلْبُ الْأَجْنَاسِ وَإِعْدَامُ الْقَدِيمِ وَإِيجَادُ الْمَوْجُودِ، وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَهُوَ لَازِمٌ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْقَاعِدَةَ عِنْدَهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عِنْدَهُ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا قَبْلَهُ.
وَالْآخَرِ: أَنَّ قُدْرَةَ الْحَادِثَةِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إيجَادِ الْمَقْدُورِ بَلْ أَفْعَالنَا حَادِثَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِرَاعِهِ، فَكُلُّ عَبْدٍ هُوَ عِنْدَهُ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ الْغَيْرِ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى هَذَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} البقرة: ٢٨٦ ، وَالْمُحَالُ لَا يُسْأَلُ دَفْعُهُ فَإِنَّهُ مُنْدَفِعٌ بِذَاتِهِ. وَهُوَ ضَعِيفٌ،؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَشُقُّ وَيَثْقُلُ عَلَيْنَا إذْ مَنْ أُتْعِب بِالتَّكْلِيفِ بِأَعْمَالٍ تَكَادُ تُفْضِي إلَى هَلَاكِهِ لِشِدَّتِهَا كَقَوْلِهِ: {اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} النساء: ٦٦ فَقَدْ يُقَالُ حُمِّلَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ؛ فَالظَّاهِرُ الْمُؤَوَّلُ ضَعِيفُ الدَّلَالَةِ فِي الْقَطْعِيَّاتِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَا يُصَدِّقُ وَقَدْ كَلَّفَهُ الْإِيمَانَ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُصَدِّقَ مُحَمَّدًا فِيمَا جَاءَ بِهِ وَمِمَّا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُصَدِّقُهُ؛ فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِي أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ وَهُوَ